ومن يحذوهم من السلف الصالحين.
فقوة المجاهدة والمحاسبة بحسب شدة الخوف الذي هو حرقة القلب وتألمه، وهو بحسب قوة المعرفة بجلال الله وعظمته وسائر صفاته وأفعاله، وبعيوب النفس وما بين يديها من الأخطار والأهوال.
وأقل درجات الخوف مما يظهر أثره في الأعمال أن يكف عن المحظورات، ويسمى الكف منها (ورعا)، فإن زادت قوته كف عن الشبهات، ويسمى ذلك (تقوى)، إذ التقوى أن يترك ما يريبه إلى ما لا يريبه، وقد يحمله على ترك ما لا بأس به مخافة ما به يأس، وهو الصدق في التقوى، فإذا انضم إليه التجرد للخدمة، وصار ممن لا يبني ما لا يسكنه، ولا يجمع ما لا يأكله ولا يلتفت إلى دنيا يعلم أنه يفارقها، ولا يصرف إلى غير الله نفسا عن أنفاسه فهو (الصدق)، ويسمى صاحبه (صديقا)، فيدخل في الصدق التقوى، وفي التقوى الورع، وفي الورع العفة، لأنها عبارة عن الامتناع من مقتضى الشهوات.
فإذن يؤثر الخوف في الجوارح بالكف والأقدام.
فصل بم يتحقق الخوف إعلم أن الخوف لا يتحقق إلا بانتظار مكروه، والمكروه إما أن يكون مكروها في ذاته كالنار، أو مكروها لإفضائه إلى المكروه في ذاته كالمعاصي المفضية إلى المكروه لذاته في الآخرة، ولا بد لكل خائف أن يتمثل في نفسه مكروه من أحد القسمين، ويقوى انتظاره في قلبه حتى يتألم قلبه بسبب استشعاره ذلك المكروه، ويختلف مقام الخائفين فيما يغلب على قلوبهم من المكروهات المحظورة:
فالذين يغلب على قلوبهم خوف المكروه لذاته، فإما أن يكون خوفهم من سكرات الموت وشدته وسؤال النكيرين وغلظته، أو عذاب القبر ووحدته وهول المطلع ووحشته، أو من الموقف بين يدي الله وهيبته والحياء من كشف سريرته، أو من الحساب ودقته والصراط وحدته، أو من النار وأهوالها والجحيم وأغلالها، أو الحرمان من دار النعيم وعدم وصوله إلى الملك المقيم