الشرياني ذا صفاقين لنفوذه في التجويف الأيمن من القلب، فكان اللازم زيادة وثاقته، لئلا يعتريه انشقاق بقوة حركة القلب وصلابته، وهو الذي يأتي بغذاء الرية إلى القلب، وإذا خلص عن القلب وجاوزه يأخذ الشريان الوريدي منه ويذهب به إلى الرية.
فانظر - يا أخي - إلى عجيب حكمة ربك، فإن حامل غذاء الرية ما دام نافذا في القلب ومصادما لحركته خلق صلبا ذا صفاقين، وإذا خلص عنه إلى الرية التي لا تتحمل الصلب جعل رخوا ذا صفاق واحد، فسبحانه ما أجل شأنه وأعظم برهانه.
ثم تفكر أيها المتفكر في (الرأس) وعجيب خلقه، حيث ركبه من عظام مختلفة الأشكال والصور، وألف بعضها إلى بعض حتى استوت كرة كما تراه، وجعله مجمع الحواس، ولذا جعله مستديرا، لأن المستدير أبعد من الآفات بالقياس إلى ذي الزاوية، وأعظم مساحة منه مع تساوي إحاطتهما، وجعل استدارته إلى طول، لأن منابت الأعصاب الدماغية موضوعة في الطول، فلو لم يتسع منبتها لازدحمت وانضغطت، وألف قحفه (73) من ستة أعظم:
اثنان بمنزلة السقف وأربعة بمثابة الجدران، ووصل بعضها ببعض بالدروز والشؤون، وجعل الجدران أصلب من اليافوخ الذي هو السقف، لأن الصدمات عليها أكثر، وتخلخل اليافوخ مما لا بد منه لخروج الأبخرة المتحللة (وعدم ثقله على الدماغ) (74) وفائدة الدروز أن تخرج منها الأبخرة المتحللة في الدماغ لئلا يؤدي مكثها إلى الصداع وغيره من الأمراض الدماغية، وجعل أصلب الجدران مؤخرها لأنه غائب عن البصر فلا يحرسه فاحتاج إلى زيادة وثاقه.
وخلق فيها الدماغ لينا دسما، لتنطبع فيه المحسوسات بسهولة، ولتكون الأعصاب النابتة منه لزجة لئلا تنكسر، وجعل مزاجه رطبا باردا لتنفعل القوى المودعة فيه عن مدركاتها، ولئلا يشتعل بالحرارة الحاصلة عن الحركات