إن دلالة الأول على ذلك أشد من دلالة الثاني عليه، إذ كل من رزق أدنى حظ من البصيرة يعلم أن بلوغ قطرة ماء قذرة إلى المراتب المذكورة ليس إلا من قدرة قادر حكيم وصنع صانع عليم، أو من حدوث الفعل من دون مشاهدة سبب مباشر، فهذا في أمر النطفة أظهر، وعلى أي تقدير كان يكون التعجب والغرابة في بلوغ النطفة السخيفة القذرة إلى المراتب المذكورة أشد وأحرى من التعجب في إحياء ميت أو إبراء أكمه أو أبرص أو تكلم حيوان أو نبات أو جماد أو غير ذلك من خوارق العادات وغرائب المعجزات، فالنظر الذي لا يقتضي منه العجب إنما هو نظرة حمقاء لم ينشأ عن حقيقة الروية والاتقان ولم يصدر عن ذي قلب يقظان. وبالجملة: الحكم والعجائب المودعة في النشأة الإنسانية أكثر من أن تحصى، وإنما أشرنا إلى نبذة قليلة منها تبصرة لمن استبصر، وتنبيها على كيفية التفكر في سائر مجاري الفكر والنظر قال الإمام أبو عبد الله الصادق (ع): " إن الصورة الإنسانية أكبر حجة لله على خلقه، وهي الكتاب الذي كتبه بيده، وهي الهيكل الذي بناه بحكمته، وهي مجموع صور العالمين، وهي المختصر من العلوم في اللوح المحفوظ، وهي الشاهد على كل غائب، وهي الحجة على كل جاحد، وهي الطريق المستقيم إلى كل خير، وهي الصراط الممدود بين الجنة والنار ".
* * * وإذ عرفت نبذا من عجائب نفسك وبدنك، فقس عليه عجائب الأرض التي هي مقرك: بوهادها وتلالها وسهلها وجبالها وأشجارها وأنهارها بحارها وأزهارها وبرارها وعمارها ومدنها وأمصارها ومعادنها وجمادها وحيوانها ونباتها، فإن كل ما نظرت إليه منها لو تأملته لوجدته مشتملا على غرائب حكم لا تعد وعجائب مصالح لا تحد، ولرأيته آية باهرة على عظمة مبدعة وحجة قاطعة على جلالة موجده.
فانظر - أولا - إلى (رواسي الجبال) وشوامخ الصم الصلاب، كيف أحكم بها جوانب الأرض وأودع المياه تحتها، فانفجرت من هذه الأحجار اليابسة والتربة الكدرة عذبة صافية، وأودع فيها الجواهر النفيسة العالية وهدى الناس إلى استخراجها واستعمالها فيما ينبغي، وخلق في الأرض معادن