وليستنشق الهواء الطيب الصافي، ويدفع الهواء الحار الدخاني، ترويحا لقلبه، وجعل له منخرين لتميل الفضلات النازلة من الدماغ غالبا إلى أحدهما، ويبقى الآخر مفتوحا، فلا تسد طرق الاستنشاق بأسرها.
ثم أنظر إلى (الفم) وعجائبه وإلى اللسان وغرائبه، فإنه سبحانه لعظيم قدرته وحكمته فتح الفهم، وأودعه اللسان وجعله ناطقا معربا عما في القلب، ومكنه من التكلم باللغات المتخالفة وتقطيع الأصوات وإخراج الحروف المتباينة، وجعل له قدرة على الحركة في مخارج مختلفة تختلف بها الحروف ليتسع طريق النطق بكثرتها. وخلق (الفكين) وركب فيهما الأسنان لتكون آلة للطحن والقطع والكسر، فأحكم أصولها، وحسن لونها، ورتب صفوفها متساوية الرؤوس متناسقة الترتيب، كالدرر المنظومة، مختلفة الأشكال باختلاف الأغراض والمقاصد، متفاوتة الأوضاع بتفاوت الغايات والفوائد ولما كان الطعام يحتاج تارة إلى الكسر وتارة إلى القطع وأخرى إلى الطحن. فقسم الأضراس إلى عريضة طواحن كالأضراس، وإلى حادة قواطع كالرباعيات، وإلى ما يصلح للكسر كالأنياب. والأضراس التي في الفك الأعلى لما كانت معلقة جعل أصولها ثلاثة أو أربعة، والتي في الفك الأسفل اكتفى في أصولها باثنين أو ثلاثة لعدم الاحتياج، وجعل لسائر الأسنان أصلا واحدا لعدم ثقل فيها. ثم جعل مفصل (الفكين) متخلخلا بحيث يتقدم الفك الأسفل ويتأخر حتى يدور على الفك الأعلى دوران الرحى، وهو ثابت لا يتحرك، فيتم الطحن بذلك. فانظر في عجيب صنع الله في هذه الرحى حيث يدور الأسفل. منها على الأعلى على خلاف سائر الأرحية، لدوران الأعلى منها على الأسفل. والحكمة في تحرك الأسفل دون الأعلى: إن الأعلى مجمع الدماغ والحواس، فتحركه كان موجبا لأذيتهما واضطرابهما، وأيضا هو مفصل الرأس والعنق، فلو تحرك لم يستحكم، مع أن الوثاقة فيه لازمة. ثم لما كان مضغ الطعام محتاجا إلى تحركه فيما تحت الأسنان، فأعطى الله سبحانه قدرة اللسان على أن يطوف في جوانب الفم ويرد الطعام من الوسط إلى الأسنان بحسب الحاجة. ولما كان الطعام يابسا فلم يمكن ابتلاعه إلا بنوع رطوبة، فخلق تحت اللسان عينا جارية يفيض منها اللعاب وينصب