الفكرية، وجعل مقدمه الذي هو منبت الأعصاب الحسية ألين من مؤخره الذي هو منبت أعصاب الحركة، لأن الحركة لا تحصل إلا بالقوة، والقوة إنما تحصل بالصلابة. ثم جلل الدماغ بغشاءين: (أحدهما) رقيق لين ملاصق لجوهره، و (ثانيهما) غليظ صلب ملاصق للقحف، وهو مثقب بثقب كثيرة لاندفاع الفضول منه، وانشعبت منه شعب دقاق تصعد من دروز القحف إلى ظاهره، ليتشبث بها هذا الغشاء بالقحف ولا ينفصل عنه، وجعل بين جزئي الدماغ المقدم والمؤخر حجابا لطيفا ليحجب عن مماسة الألين بالأصلب فيتأذى منه، وخلق تحت الدماغ بين الغشاء الغليظ والعظم نسيجه (75) شبيهة بالشباك، وقد تكونت من الشرايين الصاعدة من القلب والكبد إلى الدماغ، وقد فرشت هذه الشبكة تحت الدماغ، ليبرد فيها الدم الشرياني والروح، ويتشبه بالمزاج الدماغي بعد النضج، ثم يتخلص إلى الدماغ على التدريج، ولولاه لم يصلح الدم الكبدي والروح القلبي الكثرة حرارتهما لتغذية الدماغ، ولم يناسبا جوهره، وجعل الفرج التي بين فروع هذه الشريانات محشوة بلحم غددي لئلا تبقى خالية، ولتعتمد عليه تلك الفروع وتبقى على أوضاعها.
ثم لما كان الدماغ مبدأ الحس والحركة. ولم يكن لسائر الأعضاء حس وحركة بذاتها، وكان اللازم إيصالهما منه إليهما، ولم يكن ذلك ممكنا بدون واسطة في الايصال، فخلق (الأعصاب) من جوهره، ووصلها منه إلى سائر الأعضاء من العظام وغيرها، ليفيدها الدماغ بتوسطها حسا وحركة، وليشد ويتقوى بها اللحم والبدن، وأيضا لم يجعلها متصلة بالعظم مفردة، بل بعد اختلاطها باللحم والرباط، لئلا يتأذى من صلابته.
ثم لما كان نزول جميع الأعصاب التي يحتاج إليها من الدماغ موجبا لثقل الرأس وعظمه، خلق الله من جوهر الدماغ أشبه شئ به وهو (النخاع) وجعل في أسفل القحف ثقبا وأخرجه منها، وخصه بالعنق والصلب، وأخرج منه كثيرا من الأعصاب المحتاج إليها إلى الأعضاء. فالدماغ بمنزلة العين والينبوع للحس والحركة، والنخاع بمثابة النهر النهر العظيم الجاري منه