وقد لزمنا معرفة حكم الحادثة بالحجة بحسب الوسع فإما أن يكون الحجة استنباط المعنى من النصوص، أو استصحاب الحال كما قالوا، ومعلوم أنه ليس في استصحاب الحال إلا عمل بلا دليل ولا دليل جهل، والجهل لا يصلح أن يكون حجة باعتبار الأصل، وهو أيضا مما لا يوقف عليه، فمن المحتمل أن لا يكون عند بعض الناس فيه دليل ويكون عند بعضهم، والقياس من الوجه الذي قررنا حجة وإن كان لا يوجب علم اليقين، ألا ترى أن الشرع جوز لنا الاقدام على المباحات لقصد تحصيل المنفعة، يعني المسافرة للتجارة والمحاربة للعدو والغلبة على الأعداء بغالب الرأي، والاجتهاد في أمر القبلة والاشتغال بالمعالجة لتحصيل صفة البرء، وكل ذلك إقدام من غير بناء على ما يوجب علم اليقين، ثم هو حسن في بعض المواضع واجب في بعض المواضع. وكذلك تقويم المتلفات، واعتقاد المعروف في النفقات والمتعة، فإن ذلك منصوص عليه، ثم الاقدام عليه بالرأي جائز فكان ذلك عملا بالحجة، فتبين أن القياس من نوع العمل بما هو حجة في الأصل ولكنه دون الثابت من الحكم بالنص، فلا يصار إليه إلا في وضع لا يوجد فيه نظر. فأما استصحاب الحال فهو عمل بالجهل فلا يجوز المصير إليه إلا عند الضرورة المحضة بمنزلة تناول الميتة. وسنقرر هذا في بابه إن شاء الله تعالى. فبهم التقرير يتبين أن نفاة القياس يتمسكون بالجهل، وأن فقهاء الأمصار يعلمون بما هو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال. وأما استدلالهم بقوله تعالى: * (أو لم يكفهم؟) * قلنا نحن نقول بأن ما أنزل من الكتاب كذلك ولكن الاحتجاج بالقياس مما أنزل في الكتاب إشارة وإن كان لا يوجد فيه نصا فإنه الاعتبار المأمور به من قوله تعالى: * (فاعتبروا) * وبهذا يتبين أن الحكم به حكم بما أنزل الله فيضعف به استدلالهم بقوله تعالى:
* (ومن لم يحكم بما أنزل الله) * وبه يتبين أنه من جملة ما تناوله قوله تعالى:
* (تبيانا لكل شئ) * وقوله تعالى: * (ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) * وقد قيل المراد بالكتاب هنا اللوح المحفوظ، وبهذا يتبين أن العمل بالقياس