وكذلك ما يروى أن عمر رضي الله عنه حين فتح السواد من بها على أهلها وأبى أن يقسمها بين الغانمين مع علمنا أنه لم يخف عليه قسمة رسول الله عليه السلام خيبر بين أصحابه حين افتتحها، فاستدللنا به على أنه علم أن ذلك لم يكن حكما حتما من رسول الله عليه السلام على وجه لا يجوز غيره في الغنائم.
فإن قيل: أليس أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يطبق في الصلاة بعد ما ثبت انتساخه بحديث مشهور فيه أمر بالأخذ بالركب، ثم خفي عليه ذلك حتى لم يجعل عمله دليلا، على أن الحديث الذي فيه أمر بالأخذ بالركب منسوخ أو أن الاخذ بالركب لا يكون عينا في الصلاة؟ قلنا: ما خفي على ابن مسعود حديث الامر بالأخذ بالركب، وإنما وقع عنده أنه على سبيل الرخصة فكان تلحقهم المشقة في التطبيق مع طول الركوع لانهم كانوا يخافون السقوط على الأرض، فأمروا بالأخذ بالركب تيسيرا عليهم لا تعيينا عليهم، فلأجل هذا التأويل لم يترك العمل بظاهر الحديث الذي فيه أمر بالأخذ بالركب. والوجه الثاني أن يظهر منه العمل بخلاف الحديث وهو ممن يجوز أن يخفى عليه ذلك الحديث، فلا يخرج الحديث من أن يكون حجة بعمله بخلافه. وبيان هذا فيما روي أن النبي عليه السلام رخص للحائض في أن تترك طواف الصدر، ثم صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنها تقيم حتى تطهر فتطوف، ولا تترك بهذا العمل بالحديث الذي فيه رخصة لجواز أن يكون ذلك خفي عليه.
وكذلك ما يروى عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه كان لا يوجب إعادة الوضوء على من قهقه في الصلاة، ولا يترك به العمل بالحديث الموجب للوضوء من القهقهة في الصلاة لجواز أن يكون ذلك خفي عليه. وكذلك قول ابن عمر:
لا يحج أحد عن أحد، لا يمنع العمل بالحديث الوارد في الاحجاج عن الشيخ الكبير لجواز أن يكون ذلك خفي عليه، وهذا لان الحديث معمول به إذا صح عن رسول الله (ص) فلا يترك العمل به باعتبار عمل ممن هو دونه بخلافه، وإنما تحمل فتواه بخلاف الحديث على أحسن الوجهين وهو أنه إنما أفتى به برأيه، لأنه خفي عليه النص ولو بلغه لرجع إليه فعلى من يبلغه الحديث بطريق صحيح أن يأخذ به.