فلا يخرج بهذا من أن يكون نسخ السنة بالكتاب، مع أن الناسخ ما كان في شريعة من قبلنا قد ثبت بفعل رسول الله حين كان بمكة فإنه كان يصلي إلى الكعبة، ثم بعدما قدم المدينة لما صلى إلى بيت المقدس انتسخت السنة بالسنة، ثم لما نزلت فرضية التوجه إلى الكعبة انتسخت السنة بالكتاب، ولا خلاف أن ما كان في شريعة من قبلنا ثبت انتساخه في حقنا بقول أو فعل من رسول الله (ص) بخلافه وهذا نسخ الكتاب بالسنة. والدليل عليه أن النبي عليه السلام صالح قريشا عام الحديبية على أن يرد عليهم من جاءه منهم مسلما ثم انتسخ بقوله: * (فلا ترجعوهن إلى الكفار) * الآية، وهذا نسخ السنة بالكتاب. وكذلك حكم إباحة الخمر في الابتداء فإنه كان ثابتا بالسنة ثم انتسخ بالكتاب، وهو قوله تعالى: * (فاجتنبوه) * وحكم حرمة الأكل والشرب والجماع بعد النوم في زمان الصوم كان ثابتا بالسنة ثم انتسخ بقوله تعالى: * (فالآن باشروهن) * الآية. ولهذا أمثلة كثيرة.
وأما نسخ الكتاب بالكتاب فنحو وجوب الصفح والاعراض عن المشركين، فإنه كان ثابتا بالكتاب وهو قوله تعالى: * (فاصفح الصفح الجميل) * ثم انتسخ ذلك بالكتاب بقوله تعالى: * (فاقتلوا المشركين) * وحرمة فرار الواحد مما دون العشرة من المشركين حكما ثابتا بالكتاب وهو قوله: * (وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا) * ثم انتسخ بالكتاب وهو قوله: * (الآن خفف الله عنكم) *.
وأما نسخ السنة بالسنة فبيانه فيما روي عن رسول الله (ص) قال كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه.
وكنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي أن تمسكوها فوق ثلاثة أيام فأمسكوا وادخروا ما بدا لكم. وكنت نهيتكم عن الشرب في الدباء والحنتم والمزفت فاشربوا في الظروف فإن الظروف لا تحل شيئا ولا تحرمه، ولا تشربوا مسكرا ثم إنما يجوز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة أو المشهورة على وجه لو جهل التاريخ بينهما يثبت حكم التعارض. فأما بخبر الواحد لا يجوز النسخ بعد رسول الله (ص)، لان التعارض به لا يثبت بينه وبين الكتاب، فإنه لا يعلم بأنه كلام رسول الله عليه السلام لتمكن الشبهة في طريق النقل، ولهذا لا يوجب العلم، فلا يتبين به أيضا مدة بقاء الحكم الثابت بما يوجب علم اليقين. فأما في حياة رسول الله (ص)