فقد كان يجوز أن يثبت نسخ الكتاب بخبر الواحد، ألا ترى أن أهل قباء تحولوا في خلال الصلاة من جهة بيت المقدس إلى جهة الكعبة بخبر الواحد ولم ينكر عليهم ذلك رسول الله. وهذا لان في حياته كان احتمال النسخ والتوقيت قائما في كل حكم لان الوحي كان ينزل حالا فحالا، فأما بعده فلا احتمال للنسخ ابتداء. ولا بد من أن يكون ما يثبت به النسخ مستندا إلى حال حياته بطريق لا شبهة فيه، وهو النقل المتواتر أو ما يكون في حيز التواتر على الوجه الذي قررنا فيما سبق، والله أعلم.
فصل: في بيان وجوه النسخ وهذه وجوه أربعة: نسخ التلاوة والحكم جميعا، ونسخ الحكم مع بقاء التلاوة، ونسخ رسم التلاوة مع بقاء الحكم، والنسخ بطريق الزيادة على النص.
فأما الوجه الأول: فنحو صحف إبراهيم ومن تقدمه من الرسل عليهم السلام، فقد علمنا بما يوجب العلم حقيقة أنها قد كانت نازلة تقرأ ويعمل بها، قال تعالى: * (إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى) * وقال تعالى: * (وإنه لفي زبر الأولين) * ثم لم يبق شئ من ذلك في أيدينا تلاوة ولا عملا به فلا طريق لذلك سوى القول بانتساخ التلاوة والحكم فيما يحتمل ذلك. وله طريقان: إما صرف الله تعالى عنها القلوب، وإما موت من يحفظها من العلماء لا إلى خلف. ثم هذا النوع من النسخ في القرآن كان جائزا في حياة رسول الله عليه السلام بقوله تعالى: * (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله) * فالاستثناء دليل على جواز ذلك. وقال تعالى: * (ما ننسخ من آية أو ننسها) * وقال: * (ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك) * فأما بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام لا يجوز هذا النوع من النسخ في القرآن عند المسلمين. وقال بعض الملحدين ممن يتستر بإظهار الاسلام وهو قاصد إلى إفساده هذا جائز بعد وفاته أيضا، واستدل في ذلك بما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم.. وأنس رضي الله عنه كان يقول: