وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله) * فكذلك ما ثبت شريعة لرسول فما لم يظهر ناسخه فهو بمنزلة ما ليس فيه احتمال النسخ في كونه باقيا معمولا به، يوضحه أن ما ثبت شريعة لرسول فقد ثبتت الحقية فيه وكونه مرضيا عند الله، وبعث الرسل لبيان ما هو مرضي عند الله فما علم كونه مرضيا قبل بعث رسول آخر لا يخرج من أن يكون مرضيا ببعث رسول آخر، وإذا بقي مرضيا كان معمولا به كما كان قبل بعث الرسول الثاني، وبهذا تبين الفرق أن الأصل هو الموافقة في شرائع الرسل إلا إذا تبين تغيير حكم بدليل النسخ.
فأما الفريق الثاني فقد استدلوا بقوله تعالى: * (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) * وبقوله: * (وجعلناه هدى لبني إسرائيل) * فتخصيص بني إسرائيل يكون التوراة هدى لهم يكون دليلا على أنه لا يلزمنا العمل بما فيه إلا أن يقوم دليل يوجب العمل به في شريعتنا، ولان بعث الرسل لبيان ما بالناس حاجة إلى بيانه، وإذا لم تجعل شريعة رسول منتهية ببعث رسول آخر لم يكن بالناس حاجة إلى البيان عند بعث الثاني، لان ذلك مبين عندهم بالطريق الموجب للعلم، فمن هذا الوجه يتبين أن بعث رسول آخر دليل النسخ لشريعة كانت قبله، ولهذا جعلنا هذا كالنسخ فيما يحتمل النسخ دون ما لا يحتمل النسخ أصلا كالتوحيد وأصل الدين، ألا ترى أن الرسل عليهم السلام ما اختلفوا في شئ من ذلك أصلا ولا وصفا ولا يجوز أن يكون بينهم فيه خلاف، ولهذا انقطع القول ببقاء شريعة نبينا محمد (ص) إلى قيام الساعة لعلمنا بدليل مقطوع به أنه لا نبي بعده حتى يكون ناسخا لشريعته، يوضحه أن الأنبياء عليهم السلام قبل نبينا أكثرهم إنما بعثوا إلى قوم مخصوصين ورسولنا هو المبعوث إلى الناس كافة على ما قال عليه السلام:
أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: بعثت إلى الأحمر والأسود، وقد كان النبي قبلي يبعث إلى قومه الحديث، فإذا ثبت أنه قد كان في المرسلين من يكون وجوب العمل بشريعته على أهل مكان دون أهل مكان آخر وإن كان ذلك مرضيا عند الله تعالى علمنا أنه يجوز أن يكون وجوب العمل به على أهل زمان دون أهل زمان آخر