ويزعمون أنهم يستحسنون ذلك، وكيف يستحسن ترك الحجة والعمل بما ليس بحجة لاتباع هوى أو شهوة نفس؟ فإن كانوا يريدون ترك القياس الذي هو حجة فالحجة الشرعية هو حق وماذا بعد الحق إلا الضلال، وإن كانوا يريدون ترك القياس الباطل شرعا فالباطل مما لا يشتغل بذكره. وقد ذكروا في كتبهم في بعض المواضع أنا نأخذ بالقياس، فإن كان المراد هذا فكيف يجوزون الاخذ بالباطل. وذكر من هذا الجنس ما يكون دليل قلة الحياء وقلة الورع وكثرة التهور لقائله. فنقول وبالله التوفيق: الاستحسان لغة:
وجود الشئ حسنا، يقول الرجل: استحسنت كذا: أي اعتقدته حسنا على ضد الاستقباح، أو معناه: طلب الأحسن للاتباع الذي هو مأمور به، كما قال تعالى: * (فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) * وهو في لسان الفقهاء نوعان: العمل بالاجتهاد وغالب الرأي في تقدير ما جعله الشرع موكولا إلى آرائنا نحو المتعة المذكورة في قوله تعالى: * (متاعا بالمعروف حقا على المحسنين) * أوجب ذلك بحسب اليسار والعسرة وشرط أن يكون بالمعروف، فعرفنا أن المراد ما يعرف استحسانه بغالب الرأي.
وكذلك قوله تعالى: * (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) * ولا يظن بأحد من الفقهاء أنه يخالف هذا النوع من الاستحسان. والنوع الآخر هو الدليل الذي يكون معارضا للقياس الظاهر الذي تسبق إليه الأوهام قبل إنعام التأمل فيه، وبعد إنعام التأمل في حكم الحادثة وأشباهها من الأصول يظهر أن الدليل الذي عارضه فوقه في القوة، فإن العمل به هو الواجب، فسموا ذلك استحسانا للتمييز بين هذا النوع من الدليل وبين الظاهر الذي تسبق إليه الأوهام قبل التأمل على معنى أنه يمال بالحكم عن ذلك الظاهر لكونه مستحسنا لقوة دليله، وهو نظير عبارات أهل الصناعات في التمييز بين الطرق لمعرفة المراد، فإن أهل النحو يقولون: هذا نصب على التفسير، وهذا نصب على المصدر، وهذا نصب على الظرف، وهذا نصب على التعجب،