رسول الله (ص) كانت الإباحة ظاهرة في هذه الأشياء، فإن الناس لم يتركوا سدى في شئ من الأوقات، ولكن في زمان الفترة الإباحة كانت ظاهرة في الناس وذلك باق إلى أن ثبت الدليل الموجب للحرمة في شريعتنا، فبهذا الوجه يتبين أن الموجب للحظر متأخر، وهذا لأنا لو جعلنا الموجب للإباحة متأخرا احتجنا إلى إثبات نسخين: نسخ الإباحة الثابتة في الابتداء بالنص الموجب للحظر، ثم نسخ الحظر بالنص الموجب للإباحة، وإذا جعلنا نص الحظر متأخرا احتجنا إلى إثبات النسخ في أحدهما خاصة فكان هذا الجانب أولى، ولأنه قد ثبت بالاتفاق نسخ حكم الإباحة بالحظر. وأما نسخ حكم الحظر بالإباحة فمحتمل فبالاحتمال لا يثبت النسخ، ولان النص الموجب للحظر فيه زيادة حكم وهو نيل الثواب بالانتهاء عنه واستحقاق العقاب بالاقدام عليه، وذلك ينعدم في النص الموجب للإباحة، فكان تمام الاحتياط في إثبات التاريخ بينهما على أن يكون الموجب للحظر متأخرا والاخذ بالاحتياط أصل في الشرع.
واختلف مشايخنا فيما إذا كان أحد النصين موجبا للنفي والآخر موجبا للاثبات، فكان الشيخ أبو الحسن الكرخي رحمه الله يقول: المثبت أولى من النافي، لان المثبت أقرب إلى الصدق من النافي ولهذا قبلت الشهادة على الاثبات دون النفي.
وكان عيسى بن أبان رحمه الله يقول: تتحقق المعارضة بينهما، لان الخبر الموجب للنفي معمول به كالموجب للاثبات، وما يستدل به على صدق الراوي في الخبر الموجب للاثبات فإنه يستدل بعينه على صدق الراوي في الخبر الموجب للنفي. واختلف عمل المتقدمين من مشايخنا في مثل هذين النصين، فإنه روي أن رسول الله عليه السلام تزوج ميمونة رضي الله عنها وهو محرم، وروي أنه تزوجها وهو حلال، ثم أخذنا برواية من روى أنه تزوجها وهو محرم والاثبات في الرواية الأخرى، لانهم اتفقوا أن العقد كان بعد إحرامه، فمن روى أنه تزوجها وهو حلال فهو المثبت للتحلل من الاحرام قبل العقد ثم لم يرجح المثبت على النافي هنا. وروي أن بريرة أعتقت وزوجها كان حرا فخيرها رسول الله (ص)، وروي أنها أعتقت وزوجها عبد، ولا خلاف أن زوجها كان عبدا في الأصل، فكان الاثبات في رواية من روى أن زوجها كان حرا حين أعتقت فأخذنا بذلك، فهذا يدل على أن الترجيح