منصوص عليها، فأما بالرأي فلا يمكن الوقوف على ما هو العلة عينا فيكون العمل به باطلا. ولا يدخل عليه الاخبار فإنه لا اختلاف فيها في الأصل، لأنه كلام رسول الله (ص) وقد بينا أنه قال ذلك عن وحي، وقد علمنا بالنص أنه لا اختلاف فيما هو من عند الله، قال تعالى: * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * وإنما الاختلاف في الاخبار من جهة الرواة، والحجة هو الخبر لا الراوي.
وما كان الاختلاف فيما بين الرواة إلا نظير اشتباه الناسخ من المنسوخ في كتاب الله فإن ذلك متى ارتفع بما هو الطريق في معرفته يكون العمل بالناسخ واجبا.
ويكون ذلك عملا بالنص لا بالتاريخ، فكذلك في الاخبار. وتحت ما قررنا فائدتان بهما قوام الدين ونجاة المؤمنين: إحداهما المحافظة على نصوص الشريعة، فإنها قوالب الاحكام. والثاني التبحر في معاني اللسان فإن معانيه جمة غائرة لا يفضل عمر المرء عن التأمل فيها إذا أراد الوقوف عليها، ولا يتفرغ للعمل بالهوى الذي ينشأ منه الزيغ عن الحق والوقوع في البدعة، وما يحصل به التحرز عن البدع واجبا أحكام الشرع فلا شك أن قوام الدين ونجاة المؤمنين يكون فيه. ولا يدخل على شئ مما ذكرنا إعمال الرأي في أمر الحرب وقيم المتلفات ومهر النساء والوقوف على جهة الكعبة. أما على الوجه الأول فلان هذا كله من حقوق العباد، ويليق بحالهم العجز والاشتباه فيما يعود إلى مصالحهم العاجلة فيعتبر فيه الوسع ليتيسر عليهم الوصول إلى مقاصدهم، وهذا في غير أمر القبلة ظاهر وكذلك في أمر القبلة، فإن الأصل فيه معرفة جهات أقاليم الأرض وذلك من حقوق العباد. وعلى الثاني فلان الأصل فيما هو من حقوق العباد ما يكون مستدركا بالحواس، وبه يثبت علم اليقين كما ثبت بالكتاب والسنة، ألا ترى أن الكعبة جهتها تكون محسوسة في حق من عاينها، وبعد البعد منها بإعمال الرأي يمكن تصييرها كالمحسوسة. وكذلك أمر الحرب، فالمقصود صيانة النفس عما يتلفها أو قهر الخصم وأصل ذلك محسوس، وما هو إلا نظير التوقي عن تناول سم الزعاف لعلمه أنه متلف، والتوقي عن الوقوع على السيف