لان المستحق جاء يطلب حكم الحادثة وهو جاهل بما هو واجب له، وكانت هذه أول حادثة وقعت بعد رسول الله (ص) مما لم يسمعوا فيه نصا عنه، فكان يجب عليهم البيان بصفة الكمال، والسكوت بعد وجوب البيان دليل النفي. وعلى هذا قلنا: إذا ولدت أمة الرجل ثلاثة أولاد في بطون مختلفة فقال:
الأكبر ابني، فإنه يكون ذلك بيانا منه أن الآخرين ليسا بولدين له، لان نفي نسب ولد ليس منه واجب، ودعوى نسب ولد هو منه ليتأكد به على وجه لا ينتفي واجب أيضا، فالسكوت عن البيان بعد تحقق الوجوب دليل النفي فيجعل ذلك كالتصريح بالنفي. وعلى هذا قلنا: البكر إذا بلغها نكاح الولي فسكتت يجعل ذلك إجازة منها باعتبار حالها فإنها تستحي، فيجعل سكوتها دليلا على جواب يحول الحياء بينها وبين التكلم به وهو الإجازة التي يكون فيها إظهار الرغبة في الرجال، فإنها إنما تستحي من ذلك.
وأما النوع الثالث فنحو سكوت المولى عن النهي عند رؤية العبد يبيع ويشتري، فإنه يجعل إذنا له في التجارة لضرورة دفع الغرور عمن يعامل العبد، فإن في هذا الغرور إضرارا بهم والضرر مدفوع ولهذا لم يصح الحجر الخاص بعد الاذن العام المنتشر، والناس لا يتمكنون من استطلاع رأي المولى في كل معاملة يعاملونه مع العبد، وإنما يتمكنون من التصرف بمرأى العين منه، ويستدلون بسكوته على رضاه، فجعلنا سكوته كالتصريح بالاذن لضرورة دفع الغرور. وكذلك سكوت الشفيع عن طلب الشفعة بعد العلم بالبيع يجعل بمنزلة إسقاط الشفعة لضرورة دفع الغرور عن المشتري، فإنه يحتاج إلى التصرف في المشتري، فإذا لم يجعل سكوت الشفيع عن طلب الشفعة إسقاطا للشفعة فإما أن يمتنع المشتري من التصرف أو ينقض الشفيع عليه تصرفه، فلدفع الضرر والغرور جعلنا ذلك كالتنصيص منه على إسقاط الشفعة، وإن كان السكوت في أصله غير موضوع للبيان بل هو ضده.
وكذلك نكول المدعى عليه عن اليمين يجعل بمنزلة الاقرار منه إما لدفع الضرر عن المدعي فيكون من النوع الثالث، أو لحال الناكل وهو امتناعه من اليمين المستحقة عليه بعد تمكنه من إيفائه.