حجة على غيره، وإنما الحجة الحديث، وبتأويله لا يتغير ظاهر الحديث فيبقى معمولا به على ظاهره، وهو وغيره في التأويل والتخصيص سواء. وبيان هذا في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام قال: المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا وهذا يحتمل التفرق بالأقوال ويحتمل التفرق بالأبدان ثم حمله ابن عمر على التفرق بالأبدان حتى روى عنه أنه كان إذا أوجب البيع مشى هنيهة، ولم نأخذ بتأويله لان الحديث في احتمال كل واحد من الامرين كالمشترك فتعيين أحد المحتملين فيه يكون تأويلا لا تصرفا في الحديث. وكذلك قال الشافعي رحمه الله في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام قال: من بدل دينه فاقتلوه ثم قد ظهر من فتوى ابن عباس أن المرتدة لا تقتل فقال: هذا تخصيص لحق الحديث من الراوي وذلك بمنزلة التأويل لا يكون حجة على غيره، فأنا آخذ بظاهر الحديث وأوجب القتل على المرتدة. وأما ترك العمل بالحديث أصلا فهو بمنزلة العمل بخلاف الحديث حتى يخرج به من أن يكون حجة، لان ترك العمل بالحديث الصحيح عن رسول الله (ص) حرام كما أن العمل بخلافه حرام، ومن هذا النوع ترك ابن عمر العمل بحديث رفع اليدين عند الركوع كما بينا.
وأما ما يكون من جهة غير الراوي فهو قسمان: أحدهما ما يكون من جهة الصحابة، والثاني ما يكون من جهة أئمة الحديث. فأما ما يكون من الصحابة فهو نوعان على ما ذكره عيسى بن أبان رحمه الله: أحدهما أن يعمل بخلاف الحديث بعض الأئمة من الصحابة وهو ممن يعلم أنه لا يخفى عليه مثل ذلك الحديث، فيخرج الحديث به من أن يكون حجة، لأنه لما انقطع توهم أنه لم يبلغه ولا يظن به مخالفة حديث صحيح عن رسول الله (ص) سواء رواه هو أو غيره، فأحسن الوجوه فيه أنه علم انتساخه أو أن ذلك الحكم لم يكن حتما فيجب حمله على هذا. وبيانه فيما روى البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ثم صح عن الخلفاء أنهم أبوا الجمع بين الجلد والرجم بعد علمنا أنه لم يخف عليهم الحديث لشهرته، فعرفنا به انتساخ هذا الحكم، وكذلك صح عن عمر رضي الله عنه قوله:
والله لا أنفي أحدا أبدا. وقول علي رضي الله عنه: كفى بالنفي فتنة، مع علمنا أنه لم يخف عليهما الحديث، فاستدللنا به على انتساخ حكم الجمع بين الجلد والتغريب.