فأخذ به وقال: (ألقها على بلال) ومعلوم أنه أخذ بذلك بطريق الرأي دون طريق الوحي، ألا ترى أنه لما أتى عمر وأخبره أنه رأى مثل ذلك قال الله أكبر هذا أثبت، ولو كان قد نزل عليه الوحي به لم يكن لهذا الكلام معنى، ولا شك أن حكم الاذان مما هو (من) حق الله ثم قد جوز العمل فيه بالرأي، فعرفنا أن ذلك جائز، ولا معنى لقول من يقول إنه إنما كان يستشيرهم في الاحكام لتطييب نفوسهم، وهذا لان فيما كان الوحي فيه ظاهرا معلوما ما كان يستشيرهم، وفيما كان يستشيرهم الحال لا يخلو إما أن كان يعمل برأيهم أو لا يعمل، فإن كان لا يعمل برأيهم وكان ذلك معلوما لهم فليس في هذه الاستشارة تطييب النفس ولكنها من نوع الاستهزاء وظن ذلك برسول الله (ص) محال، وإن كان يستشيرهم ليعمل برأيهم فلا شك أن رأيه يكون أقوى من رأيهم، وإذا جاز له العمل برأيهم فيما لا نص فيه فجواز ذلك برأيه أولى. ويتبين بهذا أنه إنما كان يستشيرهم لتقريب الوجوه وتحميس الرأي، على ما كان يقول: المشورة تلقيح العقول وقال: من الحزم أن تستشير ذا رأي ثم تطيعه ثم الاستنباط بالرأي إنما يبتنى على العلم بمعاني النصوص، ولا شك أن درجته في ذلك أعلى من درجة غيره، وقد كان يعلم بالمتشابه الذي لا يقف أحد من الأمة بعده على معناه، فعرفنا بهذا أن له من هذه الدرجة أعلى النهاية، وبعد العلم بالطريق الذي يوقف به على الحكم المنع من استعمال ذلك نوع من الحجر، وتجويز استعمال ذلك نوع إطلاق وإنما يليق بعلو درجته الاطلاق دون الحجر. وكذلك ما يعلم بطريق الوحي فهو محصور متناه، وما يعلم بالاستنباط من معاني الوحي غير متناه. وقيل أفضل درجات العلم للعباد طريق الاستنباط، ألا ترى أن من يكون مستنبطا من الأمة فهو على درجة ممن يكون حافظا غير مستنبط، فالقول بما يوجب سد باب ما هو أعلى الدرجات في العلم عليه شبه المحال، ولولا طعن المتعنتين لكان الأولى بنا الكف عن الاشتغال بإظهار هذا بالحجة، فقد كان درجته في العلم ما لا
(٩٤)