فإن قال القائل: ما أنكرت أن يكون الحكم الذي طريقه الاجتهاد هو حكم واحد، وهو الأشبه عند الله تعالى، وقد يمكن الوصول إليه عند استقصاء النظر والمبالغة في الاجتهاد ولكنه لما غمضت دلالته عفا الله تعالى عن المخطئ له.
ولذلك نظائر موجودة في الأصول: منها أن القائم في صلاته قد ينسى، فيترك القراءة، وقد يسجد قبل الركوع، ويسلم في غير موضع التسليم، وقد كان يمكنه التحفظ وجمع البال وترك الكفر في غير الصلاة، فيسلم من الوهم والخطأ.
وكذلك سبيل المجتهد في أحكام الحوادث التي يعذر المخطئ فيها، وليس كذلك سبيل من لا يعذر فيه إذا أخطأ، لظهور دلالته، واستواء المحترز وغيره فيه.
قيل: أما الناسي فليس عليه في حال النسيان حكم غيره، وما نسيه فليس هو حكمه، ولا مأمورا به سواء كان نسيانه بسبب يمكن التحفظ منه، أولا يمكن، وقد أدى فرضه الذي عليه ليس عليه في حال النسيان فرض غيره، والذي يلزمه عند الذكر حكم آخر، لزمه في هذه الحال، ولم يكن لازما في حال النسيان.
ولا فرق بين الناسي وبين ما ذكرت من حكم المجتهدين، في أن كل واحد منهما مصيب لحكم الله تعالى الذي عليه في هذه الحال، لم يكلف حكما غيره.
ولو جعلنا الناسي لما ذكرت أصلا في هذا الباب لساغ رد المجتهد إليه، لان أحدا ممن يعقل من أهل النظر لا يخفى عليه أن الناسي غير مكلف في حال النسيان لما هو ناس له، وأن الحكم الذي عليه يلزمه بعد الذكر حكم آخر لم يكن لازما له قبل الذكر، وبذلك جاء السمع أيضا، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان).
ثم يقال له بعد ذلك أيضا: أخبرنا عن الناسي الذي وصفت حاله وذكرت أنه لو تحفظ لما نسي، أتقول: إن المجتهد وزانه وعروضه، وفي مثل حاله، وأنه لو تحفظ وبالغ في الاجتهاد أصاب الحق عند الله تعالى؟