جعل وجود اللفظ وجودا للمعنى في عالم الاعتبار، واعتبره وجودا تنزيليا له في ذلك العالم دون عالم الخارج والعين: كالتنزيلات الشرعية أو العرفية، مثل قوله (عليه السلام): " الطواف بالبيت صلاة " (1) وقوله (عليه السلام): " الفقاع خمر استصغره الناس " (2) ونحوهما.
ومن ثمة يكون نظر المستعمل إلى اللفظ آليا في مرحلة الاستعمال، والى المعنى استقلاليا، بحيث لا يرى في تلك المرحلة إلا المعنى ولا ينظر إلا إليه.
وإن شئت قلت: إن الوضع لأجل الاستعمال ومقدمة له، فهم المستعمل في هذه المرحلة: إيجاد المعنى باللفظ وإلقائه إلى المخاطب، فلا نظر ولا التفات له إلا إليه.
ويرد عليه:
أولا: أن تفسيرها بهذا المعنى تفسير بمعنى دقيق بعيد عن أذهان عامة الواضعين غاية البعد، ولا سيما القاصرين منهم: كالأطفال والمجانين الذين قد يصدر الوضع منهم عند الحاجة، بل قد يصدر الوضع من بعض الحيوانات أيضا.
وكيف كان، فحقيقة الوضع حقيقة عرفية سهلة التناول والمأخذ، فلا تكون بهذه الدقة التي تغفل عنها أذهان الخاصة، فضلا عن العامة.
وثانيا: أن الغرض الداعي إلى الوضع: هو استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له، لكي يدل عليه ويفهم منه معناه. فالوضع مقدمة للاستعمال والدلالة.
ومن الواضح أن الدلالة اللفظية إنما تكون بين شيئين: أحدهما دال، والآخر مدلول، فاعتبار الوحدة بينهما بأن يكون وجود اللفظ وجودا للمعنى أيضا لغو وعبث.
وأما ما ذكره أخيرا ففيه: أن لحاظ اللفظ آلة في مقام الاستعمال، لا يستلزم أن يكون ملحوظا كذلك في مقام الوضع للفرق بين المقامين.
وبكلمة واضحة: أن حال واضع اللفظ كحال صانع المرآة، ومستعمله كمستعملها، فكما أن صانع المرآة في مقام صنعها يلاحظها استقلالا من حيث