الأمر المهم، مع أنه لم يكن فيها عن حدوث الوضع في أي عصر وزمان وعن من تصدى له عين ولا أثر. فإذا فرض أن البشر كان هو الواضع لنقل ذلك في التواريخ فإنها تتكفل بنقل ما هو دونه، فكيف بمثله؟!
ولكن للتأمل في جميع هذه الأمور مجالا واسعا:
أما الأول: فيظهر ضعفه مما نذكره من ضعف ما اعتمد عليه من الوجهين المذكورين.
وأما الثاني فيرده: أنه تخرص على الغيب، لما قد سبق من أنه لا دليل على وجود هذه المناسبة بين الألفاظ والمعاني، بل الدليل قائم على عدمها في الجميع.
وأما الثالث فيرد عليه: أنا لو سلمنا وجود المناسبة الذاتية بين اللفظ والمعنى فلا نسلم أن الواضع جعل لكل معنى لفظا مخصوصا على طبق تلك المناسبة، وذلك لأن الغرض من الوضع يحصل بدون ذلك، ومعه فأي شئ يستدعي رعاية تلك المناسبة في الوضع؟ اللهم إلا أن يتمسك بذيل قاعدة استحالة الترجيح من دون مرجح، ولكن قد عرفت بطلانها.
وأما الرابع، وهو: أن الوضع وسط بين الأمور التكوينية والجعلية فهو مما لا يرجع إلى معنى محصل، وذلك لعدم واسطة بينهما، ضرورة أن الشئ إذا كان من الموجودات الحقيقية التي لا تتوقف في وجودها على اعتبار أي معتبر فهو من الموجودات التكوينية، وإلا فمن الأمور الاعتبارية الجعلية، ولا نعقل ما يكون وسطا بين الأمرين. وأما حديث الإلهام: فهو حديث صحيح، ولا اختصاص له بالوضع.
وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: * (اهدنا الصراط المستقيم) *: أن الله تبارك وتعالى كما من على عباده بهدايتهم تشريعا، وسوقهم إلى الحياة الأبدية بإرسال الرسل وإنزال الكتب كذلك من عليهم بهدايتهم تكوينا بإلهامهم إلى سيرهم نحو كمالهم، بل إن هذه الهداية موجودة في جميع الموجودات، فهي تسير نحو كمالهم