ما يؤخذ من الانسان بغير عوض، وبهذا التقدير لا تكون الآية مجملة، لكن قال بعضهم: إنها منسوخة، قالوا: لما نزلت هذه الآية تحرج الناس من أن يأكلوا عند أحد شيئا، وشق ذلك على الخلق، فنسخه الله تعالى بقوله في سورة النور: * (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم) * (النور: 61) الآية. وأيضا: ظاهر الآية إذا فسرنا الباطل بما ذكرناه، تحرم الصدقات والهبات، ويمكن أن يقال: هذا ليس بنسخ وإنما هو تخصيص، ولهذا روى الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود أنه قال: هذه الآية محكمة ما نسخت، ولا تنسخ إلى يوم القيامة.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: * (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * يدخل تحته أكل مال الغير بالباطل، وأكل مال نفسه بالباطل؛ لأن قوله: * (أموالكم) * يدخل فيه القسمان معا، كقوله: * (ولا تقتلوا أنفسكم) * يدل على النهي عن قتل غيره وعن قتل نفسه بالباطل. أما أكل مال نفسه بالباطل. فهو إنفاقه في معاصي الله، وأما أكل مال غيره بالباطل فقد عددناه.
ثم قال: * (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ عاصم وحمزة والكسائي: * (تجارة) * بالنصب، والباقون بالرفع. أما من نصب فعلى " كان " الناقصة، والتقدير: إلا أن تكون التجارة تجارة، وأما من رفع فعلى " كان " التامة، والتقدير: إلا أن توجد وتحصل تجارة. وقال الواحدي: والاختيار الرفع، لأن من نصب أضمر التجارة فقال: تقديره إلا أن تكون التجارة تجارة، والاضمار قبل الذكر ليس بقوى وإن كان جائزا.
المسألة الثانية: قوله: * (إلا) * فيه وجهان: الأول: أنه استثناء منقطع، لأن التجارة عن تراض ليس من جنس أكل المال بالباطل، فكان " إلا " ههنا بمعنى " بل " والمعنى: لكل يحل أكله بالتجارة عن تراض. الثاني: ان من الناس من قال: الاستثناء متصل وأضمر شيئا، فقال التقدير: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، وإن تراضيتم كالربا وغيره، إلا أن تكون تجارة عن تراض.
واعلم أنه كما يحل المستفاد من التجارة، فقد يحل أيضا المال المستفاد من الهبة والوصية والإرث وأخذ الصدقات والمهر وأروش الجنايات، فان أسباب الملك كثيرة سوى التجارة.
فان قلنا: إن الاستثناء منقطع فلا إشكال، فإنه تعالى ذكر ههنا سببا واحد، من أسباب الملك ولم يذكر سائرها، لا بالنفي ولا باثبات.
وإن قلنا: الاستثناء متصل كان ذلك حكما بأن غير التجارة لا يفيد الحل، وعند هذا لا بد إما من النسخ أو التخصيص.