المسألة الثالثة: قال الشافعي رحمة الله عليه: النهي في المعاملات يدل على البطلان، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يدل عليه، واحتج الشافعي على صحة قوله بوجوه: الأول: أن جميع الأموال مملوكة لله تعالى، فإذا أذن لبعض عبيده في بعض التصرفات كان ذلك جاريا مجرى ما إذا وكل الانسان وكيلا في بعض التصرفات، ثم إن الوكيل إذا تصرف على خلاف قول الموكل فذاك غير منعقد بالاجماع، فإذا كان التصرف الواقع على خلاف قول المالك المجازي لا ينعقد فبأن يكون التصرف الواقع على خلاف قول المالك الحقيقي غير منعقد كان أولى. وثانيها: أن هذه التصرفات الفاسدة إما أن تكون مستلزمة لدخول المحرم المنهي عنه في الوجود، وإما أن لا تكون فان كان الأول وجب القول ببطلانها قياسا على التصرفات الفاسدة. والجامع السعي في أن لا يدخل منشأ النهي في الوجود، وإن كان الثاني وجب القول بصحتها، قياسا على التصرفات الصحيحة، والجامع كونها تصرفات خالية عن المفسد، فثبت أنه لا بد من وقوع التصرف على هذين الوجهين. فأما القول بتصرف لا يكون صحيحا ولا باطلا فهو محال، وثالثها: أن قوله: لا تبيعوا الدرهم بدرهمين، كقوله: لا تبيعوا الحر بالعبد، فكما أن هذا النهي باللفظ لكنه نسخ للشريعة فكذا الأول، وإذا كان ذلك نسخا للشريعة بطل كونه مفيدا للحكم والله أعلم.
المسألة الرابعة: قال أبو حنيفة رحمة الله عليه، خيار المجلس غير ثابت في عقود المعاوضات المحضة، وقال الشافعي رحمة الله عليه: ثابت، احتج أبو حنيفة بالنصوص: أولها: هذه الآية، فان قوله: * (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) * ظاهره يقتضي الحل عند حصول التراضي، سواء حصل التفرق أو لم يحصل. وثانيها: قوله: * (أوفوا بالعقود) * فألزم كل عاقد الوفاء بما عقد عن نفسه. وثالثها: قوله عليه الصلاة والسلام: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه " وقد حصلت الطيبة ههنا بعقد البيع، فوجب أن يحصل الحل. ورابعها: قوله عليه الصلاة والسلام: " من ابتاع طعاما لا يبعه حتى يقبضه " جوز بيعه بعد القبض، وخامسها: ما روي أنه عليه السلام نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصيعان، وأباح بيعه إذا جرى فيه الصيعان، ولم يشترط فيه الافتراق. وسادسها: قوله عليه الصلاة والسلام: " لا يجزى ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه " واتفقوا على أنه كما اشترى حصل العتق، وذلك يدل على أنه يحصل الملك بمجرد العقد.
واعلم أن الشافعي يسلم عموم هذه النصوص، لكنه يقول: أنتم أثبتم خيار الرؤية في شراء ما لم يره المشتري بحديث اتفق المحدثون على ضعفه، فنحن أيضا نثبت خيار المجلس بحديث اتفق علماء الحديث على قبوله، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: " المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا " وتأويلات أصحاب