محيطة بالناس، فإذا صدر من إنسان احسان إلى غيره صارت رغبة المحسن إليه في ذلك المال سببا لصيرورته منقادا مطيعا له، فلهذا قيل: بالبر يستعبد الحر، فإذا لم يوجد هذا بقيت النفرة الطبيعية عن الانقياد للغير خالصا عن المعارض، فلا يحصل الانقياد البتة، فثبت أن الملك والبخل لا يجتمعان ثم إن الملك على ثلاثة أقسام: ملك على الظواهر فقط، وهذا هو ملك الملوك، وملك على البواطن فقط، وهذا هو ملك العلماء، وملك على الظواهر والبواطن معا، وهذا هو ملك الأنبياء صلوات الله عليهم. فإذا كان الجود من لوازم الملك وجب في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يكونوا في غاية الجود والكرم والرحمة والشفقة، ليصير كل واحد من هذه الأخلاق سببا لانقياد الخلق لهم، وامتثالهم لأوامرهم. وكمال هذه الصفات حاصل لمحمد عليه الصلاة والسلام.
المسألة الرابعة: قال سيبويه: " إذن " في عوامل الأفعال بمنزلة أظن في عوامل الأسماء، وتقريره أن الظن إذا وقع في أول الكلام نصب لا غير، كقولك أظن زيدا قائما، وإن وقع في الوسط جاز إلغاؤه وإعماله، كقوله: زيد أظن قائم، وإن شئت قلت زيدا أظن قائما، وإن تأخر فالأحسن إلغاؤه، تقول زيد منطلق ظننت، والسبب فيما ذكرناه أن " ظن " وما أشبهه من الأفعال نحو علم وحسب ضعيفة في العمل، لأنها لا تؤثر في معمولاتها، فإذا تقدم دل التقديم في الذكر على شدة العناية فقوي على التأثير، وإذا تأخر دل على عدم العناية فلغا، وإن توسط فحينئذ لا يكون في محل العناية من كل الوجوه، ولا في محل الاهمال من كل الوجوه، بل كانت كالمتوسطة في هاتين الحالتين فلا جرم كان الأعمال والالغاء جائزا.
واعلم أن الأعمال في حال التوسط أحسن، والالغاء حال التأخر أحسن.
إذا عرفت هذا فنقول: كلمة " إذن " على هذا الترتيب أيضا، فان تقدمت نصبت الفعل، تقول إذن أكرمك، وإن توسطت أو تأخرت جاز الالغاء، تقول أنا إذن أكرمك، وأنا أكرمك إذن فتلغيه في هاتين الحالتين.
إذا عرفت هذه المقدمة فقوله تعالى: * (فإذا لا يؤتون الناس نقيرا) * كلمة " إذن " فيها متقدمة وما عملت، فذكروا في العذر وجوها: الأول: أن في الكلام تقديما وتأخيرا، والتقدير: لا يؤتون الناس نقيرا إذن. الثاني: أنها لما وقعت بين الفاء والفعل جاز أن تقدر متوسطة فتلغى كما تلغى إذا توسطت أو تأخرت، وهكذا سبيلها مع الواو كقوله تعالى: * (وإذا لا يلبثون خلفك) * والثالث: قرأ ابن مسعود * (فإذا لا يؤتوا) * على إعمال " إذن " عملها الذي هو النصب.
المسألة الخامسة: قال أهل اللغة: النقير نقرة في ظهر النواة ومنها تنبت النخلة، وأصله أنه