أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها) * (المنافقون: 10 - 11) فأخبر تعالى في هذه الآيات أن التوبة لا تقبل عند حضور الموت. السادس: روى أبو أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، أي ما لم تتردد الروح في حلقه، وعن عطاء: ولو قبل موته بفواق الناقة. وعن الحسن: أن إبليس قال حين أهبط إلى الأرض: وعزتك لا أفارق ابن آدم ما دامت روحه في جسده، فقال: وعزتي لا أغلق عليه باب التوبة ما لم يغرغر.
واعلم أن قوله: * (حتى إذا حضر أحدهم الموت) * (النساء: 18) أي علامات نزول الموت وقربه، وهو كقوله تعالى: * (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت) * (البقرة: 180).
البحث الثاني: قال المحققون: قرب الموت لا يمنع من قبول التوبة، بل المانع من قبول التوبة مشاهدة الأحوال التي عندها يحصل العلم بالله تعالى على سبيل الاضطرار، وإنما قلنا إن نفس القرب من الموت لا يمنع من قبول التوبة لوجوه: الأول: أن جماعة أماتهم الله تعالى ثم أحياهم مثل قوم من بني إسرائيل، ومثل أولاد أيوب عليه السلام، ثم إنه تعالى كلفهم بعد ذلك الاحياء، فدل هذا على أن مشاهدة الموت لا تخل بالتكليف. الثاني: أن الشدائد التي يلقاها من يقرب موته تكون مثل الشدائد الحاصلة عند القولنج، ومثل الشدائد التي تلقاها المرأة عند الطلق أو أزيد منها، فإذا لم تكن هذه الشدائد مانعة من بقاء التكليف فكذا القول في تلك الشدائد. الثالث: أن عند القرب من الموت إذا عظمت الآلام صار اضطرار العبد أشد وهو تعالى يقول: * (أمن يجيب المضطر إذا دعاه) * (النمل: 62) فتزايد الآلام في ذلك الوقت بأن يكون سببا لقبول التوبة أولى من أين يكون سببا لعدم قبول التوبة، فثبت بهذه الوجوه أن نفس القرب من الموت ونفس تزايد الآلام والمشاق، لا يجوز أن يكون مانعا من قبول التوبة، ونقول: المانع من قبول التوبة أن الانسان عند القرب من الموت إذا شاهد أحوالا وأهوالا صارت معرفته بالله ضرورية عند مشاهدته تلك الأهوال، ومتى صارت معرفته بالله ضرورية سقط التكليف عنه، ألا ترى أن أهل الآخرة لما صارت معارفهم ضرورية سقط التكليف عنهم وإن لم يكن هناك موت ولا عقاب، لأن توبتهم عند الحشر والحساب وقبل دخول النار، لا تكون مقبولة.
واعلم أن ههنا بحثا عميقا أصوليا، وذلك لأن أهل القيامة لا يشاهدون إلا أنهم صاروا أحياء بعد أن كانوا أمواتا، ويشاهدون أيضا النار العظيمة وأصناف الأهوال، وكل ذلك لا يوجب أن يصير العلم بالله ضروريا، لأن العلم بأن حصول الحياة بعد أن كانت معدومة يحتاج إلى الفاعل علم نظري عند أكثر شيوخ المعتزلة، وبتقدير أن يقال: هذا العلم ضروري لكن العلم بأن الاحياء لا يصح من غير الله لا شك أنه نظري، وأما العلم بأن فاعل تلك النيران العظيمة ليس إلا الله، فهذا