قوله: * (راعنا) * معناه أرعنا سمعك، أي اصرف سمعك إلى كلامنا وأنصت لحديثنا وتفهم، وهذا مما لا يخاطب به الأنبياء عليهم السلام، بل إنما يخاطبون بالاجلال والتعظيم. الثالث: كانوا يقولون راعنا ويوهمونه في ظاهر الأمر أنهم يريدون أرعنا سمعك، وكانوا يريدون سبه بالرعونة في لغتهم. الرابع: أنهم كانوا يلوون ألسنتهم حتى يصير قولهم: * (راعنا) * راعينا، وكانوا يريدون أنك كنت ترعى أغناما لنا، وقوله: * (ليا بألسنتهم) * قال الواحدي: أصل " ليا " لويا، لأنه من لويت، ولكن الواو أدغمت في الياء لسبقها بالسكون، ومثله الطي وفي تفسيره وجوه: الأول: قال الفراء كانوا يقولون: راعنا ويريدون به الشتم، فذاك هو اللي، وكذلك قولهم: (غير مسمع) وأرادوا به لا سمعت، فهذا هو اللي. الثاني: انهم كانوا يصلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير على سبيل النفاق. الثالث: لعلهم كانوا يفتلون أشداقهم وألسنتهم عند ذكر هذا الكلام على سبيل السخرية، كما جرت عادة من يهزأ بانسان بمثل هذا الأفعال، ثم بين تعالى أنهم إنما يقدمون على هذه الأشياء لطعنهم في الدين، لأنهم كانوا يقولون لأصحابهم: إنما نشتمه ولا يعرف، ولو كان نبيا لعرف ذلك، فأظهر الله تعالى ذلك فعرفه خبث ضمائرهم، فانقلب ما فعلوه طعناه في نبوته دلالة قاطعة على نبوته، لأن الاخبار عن الغيب معجز.
فان قيل: كيف جاؤوا بالقول المحتمل للوجهين بعدما حرفوا، وقالوا سمعنا وعصينا؟
والجواب من وجهين: الأول: أنا حكينا عن بعض المفسرين أنه قال: إنهم ما كانوا يظهرون قولهم: * (وعصينا) * بل كانوا يقولونه في أنفسهم. والثاني: هب أنهم أظهروا ذلك إلا أن جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان، ولا يواجهونه بالسب والشتم.
ثم قال تعالى: * (ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم) * والمعنى أنهم لو قالوا بدل قولهم: سمعنا وعصينا، سمعنا وأطعنا لعلمهم بصدقك ولاظهارك الدلائل والبينات مرات بعد مرات، وبدل قولهم: * (واسمع غير مسمع) * قولهم واسمع، وبدل قولهم: * (راعنا) * قولهم: * (انظرنا) * أي اسمع منا ما نقول، وانظرنا حتى نتفهم عنك لكان خيرا لهم عند الله وأقوم، أي أعدل وأصوب، ومنه يقال: رمح قويم أي مستقيم؛ وقومت الشيء من عوج فتقوم.
ثم قال: * (ولكن لعنهم الله بكفرهم) * والمراد أنه تعالى إنما لعنهم بسبب كفرهم.
ثم قال: * (فلا يؤمنون إلا قليلا) * وفيه قولان: أحدهما: أن القليل صفة للقوم، والمعنى فلا يؤمن منهم إلا أقوام قليلون. ثم منهم من قال: كان ذلك القليل عبد الله بن سلام وأصحابه، وقيل: هم الذين علم الله منهم أنهم يؤمنون بعد ذلك.