وأما الثالث: فجوابه أن كلمة " من " صارت مفسرة في الآية السابقة بكلمة " في " يعني في قوم عدو لكم، فكذا ههنا يجب أن يكون المعنى ذلك لا غير.
واعلم أن فائدة هذا البحث تظهر في مسألة شرعية، وهي أن مذهب أبي حنيفة أن دية الذمي مثل دية المسلم، وقال الشافعي رحمه الله تعالى: دية اليهودي والنصراني ثلث دية المجوسي، ودية المجوسي ثلثا عشر دية المسلم. واحتج أبو حنيفة على قوله بهذه الآية: * (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق) * المراد به الذمي، ثم قال: * (فدية مسلمة إلى أهله) * فأوجب تعالى فيهم تمام الدية، ونحن نقول: إنا بينا أن الآية نازلة في حق المؤمنين لا في حق أهل الذمة فسقط الاستدلال، وأيضا بتقدير أن يثبت لهم أنها نازلة في أهل الذمة لم تدل على مقصودهم، لأنه تعالى أوجب في هذه الآية دية مسلمة، فهذا يقتضي إيجاب شيء من الأشياء التي تسمى دية، فلم قلتم إن الدية التي أوجبها في حق الذمي هي الدية التي أوجبها في حق المسلم؟ ولم لا يجوز أن تكون دية المسلم مقدارا معينا. ودية الذمي مقدارا آخر، فان الدية لا معنى لها إلا المال الذي يؤدى في مقابلة النفس، فان ادعيتم أن مقدار الدية في حق المسلم وفي حق الذمي واحد فهو ممنوع، والنزاع ما وقع إلا فيه، فسقط هذا الاحتجاج والله أعلم.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: لم قدم تحرير الرقبة على الدية في الآية الأولى وههنا عكس هذا الترتيب، إذ لو أفاده لتوجه الطعن في إحدى الآيتين فصار هذا كقوله: * (ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة) * (البقرة) 58) وفي آية أخرى * (وقولوا حطة) * (البقرة: 58) * (وادخلوا الباب) * (البقرة: 154، الأعراف: 161) والله أعلم.
المسألة الثالثة: في هؤلاء الذين بيننا وبينهم ميثاق قولان: الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: هم أهل الذمة من أهل الكتاب. الثاني: قال الحسن: هم المعاهدون من الكفار.
ثم قال تعالى: * (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله) * أي فعليه ذلك بدلا عن الرقبة إذا كان فقيرا، وقال مسروق إنه بدل عن مجموع الكفارة والدية، والتتابع واجب حتى لو أفطر يوما وجب الاستئناف إلا أن يكون الفطر بحيض أو نفاس، وقوله: * (توبة من الله) * انتصب بمعنى صيام ما تقدم، كأنه قيل: اعملوا بما أوجب الله عليكم لأجل التوبة من الله، أي ليقبل الله توبتكم، وهو كما يقال: فعلت كذا حذر الشر.
فان قيل: قتل الخطأ لا يكون معصية، فما معنى قوله: * (توبة من الله) *.
قلنا فيه وجوه: الأول: أن فيه نوعين من التقصير، فان الظاهر أنه لو بالغ في الاحتياط لم يصدر عنه ذلك الفعل، ألا ترى أن من قتل مسلما على ظن أنه كافر حربي، فلو أنه بالغ في الاحتياط