والقول الثاني: أن القليل صفة للايمان، والتقدير فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا، فإنهم كانوا يؤمنون بالله والتوراة وموسى ولكنهم كانوا يكفرون بسائر الأنبياء، ورجح أبو علي الفارسي هذا القول على الأول، قال: لأن " قليلا " لفظ مفرد، ولو أريد به ناس لجمع نحو قوله: * (إن هؤلاء لشرذمة قليلون) * (الشعراء: 54) ويمكن أن يجاب عنه بأنه قد جاء فعيل مفردا، والمراد به الجمع قال تعالى: * (وحسن أولئك رفيقا) * (النساء: 69) وقال: * (ولا يسأل حميم حميما يبصرونهم) * (المعارج: 10 - 11) فدل عود الذكر مجموعا إلى القبيلين على أنه أريد بهما الكثرة.
قوله تعالى * (يا أيهآ الذين أوتوا الكتاب ءامنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارهآ أو نلعنهم كما لعنآ أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا) *.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى بعد أن حكى عن اليهود أنواع مكرهم وإيذائهم أمرهم بالايمان وقرن بهذا الأمر الوعيد الشديد على الترك، ولقائل أن يقول: كان يجب أن يأمرهم بالنظر والتفكر في الدلائل الدالة على صحة نبوته، حتى يكون إيمانهم استدلاليا، فلما أمرهم بذلك الايمان ابتداء فكأنه تعالى أمرهم بالايمان على سبيل التقليد.
والجواب عنه: أن هذا الخطاب مختص بالذين أوتوا الكتاب، وهذا صفة من كان عالما بجميع التوراة. ألا ترى أنه قال في الآية الأولى: * (أم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) * (النساء: 44) ولم يقل: ألم تر إلى الذين أوتوا الكتاب، لأنهم ما كانوا عالمين بكل ما في التوراة، فلما قال في هذه الآية يقل: ألم تر إلى الذين أوتوا الكتاب، لأنهم ما كانوا عالمين بكل ما في التوراة، فلما قال في هذه الآية: * (يا أيها الذين أوتوا الكتاب) * علمنا أن هذا التكليف مختص بمن كان عالما بكل التوراة، ومن كان كذلك فإنه يكون عالما بالدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن التوراة كانت مشتملة على تلك الدلائل، ولهذا قال تعالى: * (مصدقا لما معكم) * أي مصدقا للآيات الموجودة في التوراة الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا كان العلم حاصلا كان ذلك الكفر محض العناد، فلا جرم حسن منه تعالى أن يأمرهم بالايمان بمحمد عليه الصلاة والسلام جزما، وأن