المسألة الرابعة: ظاهر قوله: * (أو أشد خشية) * يوهم الشك، وذلك على علام الغيوب محال. وفيه وجوه من التأويل: الأول: المراد منه الابهام على المخاطب، بمعنى أنهم على إحدى الصفتين من المساواة والشدة، وذلك لأن كل خوفين فأحدهما بالنسبة إلى الآخر إما أن يكون أنقص أو مساويا أو أزيد فبين تعالى بهذه الآية أن خوفهم من الناس ليس أنقص من خوفهم من الله، بل بقي إما أن يكون مساويا أو أزيد، فهذا لا يوجب كونه تعالى شاكا فيه، بل يوجب إبقاء الابهام في هذين القسمين على المخاطب. الثاني: أن يكون " أو " بمعنى الواو، والتقدير: يخشونهم كخشية الله وأشد خشية، وليس بين هذين القسمين منافاة، لأن من هو أشد خشية فمعه من الخشية مثل خشيته من الله وزيادة. الثالث: أن هذا نظير قوله: * (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) * (الصافات: 147) يعني أن من يبصرهم يقول هذا الكلام، فكذا ههنا والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال) *.
واعلم أن هؤلاء القائلين إن كانوا مؤمنين فهم إنما قالوا ذلك لا اعتراضا على الله، لكن جزعا من الموت وحبا للحياة، وإن كانوا منافقين فمعلوم أنهم كانوا منكرين لكون الرب تعالى كاتبا للقتال عليهم، فقالوا ذلك على معنى أنه تعالى كتب القتال عليهم في زعم الرسول عليه الصلاة والسلام وفي دعواه، ثم قالوا: * (لولا أخرتنا إلى أجل قريب) * وهذا كالعلة لكراهتهم لايجاب القتال عليهم، أي هلا تركتنا حتى نموت بآجالنا، ثم إنه تعالى أجاب عن شبهتهم فقال: * (قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى) * وإنما قلنا: إن الآخرة خير لوجود: الأول: ان نعم الدنيا قليلة، ونعم الآخرة كثيرة. والثاني: ان نعم الدنيا منقطعة ونعم الآخرة مؤبدة. والثالث: أن نعم الدنيا مشوبة بالهموم والغموم والمكاره، ونعم الآخرة صافية عن الكدرات. والرابع: أن نعم الدنيا مشكوكة فان أعظم الناس تنعما لا يعرف أنه كيف يكون عاقبته في اليوم الثاني، ونعم الآخرة يقينية، وكل هذه الوجوه تجب رجحان الآخرة على الدنيا، إلا أن هذه الخيرية إنما تحصل للمؤمنين المتقين، فلهذا المعنى ذكر تعالى هذا الشرط وهو قوله: * (لمن اتقى) * وهذا هو المراد من قوله عليه الصلاة والسلام: " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ".
ثم قال تعالى: * (ولا تظلمون فتيلا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: * (يظلمون) * بالياء على أنه راجع إلى المذكورين في قوله: * (ألم ترى إلى الذين قيل) * والباقون بالتاء على سبيل الخطاب، ويؤيد التاء قوله: * (قل متاع الدنيا قليل) * فان قوله: * (قل) * يفيد الخطاب.