لم يأمرنا بذلك.
المسألة الرابعة: قال أبو علي الجبائي: لما دلت هذه الآية على أنه تعالى لم يكلفهم ما يغلظ ويثقل عليهم، فبأن لا يكلفهم ما لا يطيقون كان أولى، فيقال له: هذا لازم عليك لأن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما لم يكلفهم بهذه الأشياء الشاقة، لأنه لو كلفهم بها لما فعلوها، ولو لم يفعلوها لوقعوا في العذاب، ثم انه تعالى علم من أبي جهل وأبي لهب أنهم لا يؤمنون، وأنهم لا يستفيدون من التكليف إلا العقاب الدائم، ومع ذلك فإنه تعالى كلفهم، فكل ما تجعله جوابا عن هذا فهو جوابنا عما ذكرت.
ثم قال تعالى: * (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما) *.
اعلم أن المراد من قوله: * (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به) * أنهم لو فعلوا ما كلفوا به وأمروا به، وإنما سمي هذا التكليف والأمر وعظا لأن تكاليف الله تعالى مقرونة بالوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، والثواب والعقاب، وما كان كذلك فإنه يسمى وعظا، ثم إنه تعالى بين أنهم لو التزموا هذه التكاليف لحصلت لهم أنواع من المنافع.
فالنوع الأول: قوله: * (لكان خيرا لهم) * فيحتمل أن يكون المعنى أنه يحصل لهم خير الدنيا والآخرة، ويحتمل أن يكون المعنى المبالغة والترجيح، وهو أن ذلك أنفع لهم وأفضل من غيره، لأن قولنا: " خير " يستعمل على الوجهين جميعا.
النوع الثاني: قوله: * (وأشد تثبيتا) * وفيه وجوه: الأول: أن المراد أن هذا أقرب إلى ثباتهم عليه واستمرارهم، لأن الطاعة تدعو إلى أمثالها، والواقع منها في وقت يدعو إلى المواظبة عليه. الثاني: أن يكون أثبت وأبقى لأنه حق والحق ثابت باق، والباطل زائل. الثالث: أن الانسان يطلب أولا تحصيل الخير، فإذا حصله فإنه يطلب أن يصير ذلك الحاصل باقيا ثابتا، فقوله: * (لكان خيرا لهم) * إشارة إلى الحالة الأولى، وقوله: * (وأشد تثبيتا) * إشارة إلى الحالة الثانية.
النوع الثالث: قوله تعالى: * (وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما) *.
واعلم أنه تعالى لما بين أن هذا الاخلاص في الايمان خير مما يريدونه من النفاق وأكثر ثباتا وبقاء، بين أنه كما أنه في نفسه خير فهو أيضا مستعقب الخيرات العظيمة وهو الأجر العظيم والثواب العظيم. قال صاحب " الكشاف ": و " إذا " جواب لسؤال مقدر، كأنه قيل: ماذا يكون من هذا الخير والتثبيت. فقيل: هو أن نؤتيهم من لدنا أجرا عظيما، كقوله: * (ويؤت من لدنه أجرا عظيما) * (النساء: 4).