في سعادة الآخرة حكى عنهم في هذه الآية خصلة أخرى قبيحة أقبح من الأولى، وفي النظم وجه آخر، وهو أن هؤلاء الخائفين من الموت المتثاقلين في الجهاد من عادتهم أنهم إذا جاهدوا وقاتلوا فان أصابوا واحدة وغنيمة راحة قالوا: هذه من عند الله، وإن أصابهم مكروه قالوا: هذا من شؤم مصاحبة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على غاية حمقهم وجهلهم وشدة عنادهم، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في الحسنة والسيئة وجوها؛ الأول: قال المفسرون: كانت المدينة مملوءة من النعم وقت مقدم الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما ظهر عناد اليهود ونفاق المنافقين أمسك الله عنهم بعض الامساك كما جرت عادته في جميع الأمم، قال تعالى: * (وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء) * فعند هذا قال اليهود والمنافقون: ما رأينا أعظم شؤما من هذا الرجل، نقصت ثمارنا وغلت أسعارنا منذ قدم، فقوله تعالى: * (وان تصبهم حسنة) * يعني الخصب ورخص السعر وتتابع الأمطار قالوا: هذا من عند الله * (وان تصبهم سيئة) * جدب وغلاء سعر قالوا هذا من شؤم محمد، وهذا كقوله تعالى: * (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وان تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه) * (الأعراف: 131) وعن قوم صالح: * (قالوا اطيرنا بك وبمن معك) *.
القول الثاني: المراد من الحسنة النصر على الأعداء والغنيمة، ومن السيئة القتل والهزيمة قال القاضي: والقول الأول هو المعتبر لأن إضافة الخصب والغلاء إلى الله وكثرة النعم وقلتها إلى الله جائزة، أما إضافة النصر والهزيمة إلى الله فغير جائزة، لأن السيئة إذا كانت بمعنى الهزيمة والقتل لم يجز إضافتها إلى الله، وأقول: القول كما قال على مذهبه، أما على مذهبنا فالكل داخل في قضاء الله وقدره.
المسألة الثانية: اعلم أن السيئة تقع على البلية والمعصية، والحسنة على النعمة والطاعة قال تعالى: * (وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون) * (الأعراف: 168) وقال: * (ان الحسنات يذهبن السيئات) * (هود: 114).
إذا عرفت هذا فنقول: قوله: * (وان تصبهم حسنة) * يفيد العموم في كل الحسنات، وكذلك قوله: * (وان تصبهم سيئة) * يفيد العموم في كل السيئات، ثم قال بعد ذلك: * (قل كل من عند الله) * فهذا تصريح بأن جميع الحسنات والسيئات من الله، ولما ثبت بما ذكرنا أن الطاعات والمعاصي داخلتان تحت اسم الحسنة والسيئة كانت الآية دالة على أن جميع الطاعات والمعاصي من الله وهو المطلوب.
فان قيل: المراد ههنا بالحسنة والسيئة ليس هو الطاعة والمعصية، ويدل عليه وجوه: الأول: اتفاق الكل على أن هذه الآية نازلة في معنى الخصب والجدب فكانت مختصة بهما. الثاني: أن الحسنة التي يراد بها الخير والطاعة لا يقال فيها أصابتني، إنما يقال أصبتها، وليس في كلام العرب