ودولة أظهر الغم الشديد بسبب فوات تلك الغنيمة، ومثل هذه المعاملة لا يقدم عليها الانسان إلا في حق الأجنبي العدو، لأن من أحب إنسانا فرح عند فرحه وحزن عند حزنه، فاما إذا قلبت هذه القضية فذاك إظهار للعداوة.
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنه تعالى حكى عن هذا المنافق سروره وقت نكبة المسلمين، ثم أراد أين يحكي حزنه عند دولة المسلمين بسبب أنه فاته الغنيمة، فقبل أن يذكر هذا الكلام بتمامه ألقى في البين قوله: * (كأن لم تكن بينكم وبينه مودة) * والمراد التعجب كأنه تعالى يقول: انظروا إلى ما يقول هذا المنافق كأنه ليس بينكم أنها المؤمنون وبينه مودة ولا مخالطة أصلا، فهذا هو المراد من الكلام، وهو وإن كان كلاما واقعا في البين على سبيل الاعتراض إلا أنه في غاية الحسن.
قوله تعالى * (فليقاتل فى سبيل الله الذين يشرون الحيوة الدنيا بالاخرة ومن يقاتل فى سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما) *.
اعلم أنه تعالى لما ذم المبطئين في الجهاد عاد إلى الترغيب فيه فقال: * (فليقاتل في سبيل الله) * وللمفسرين في قوله: * (يشرون الحياة الدنيا) * وجهان: الأول: أن * (يشرون) * معناه يبيعون قال ابن مفرغ وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هامه قال: وبرد هو غلامه، وشربته بمعنى بعته، وتمنى الموت بعد بيعه، فكان معنى الآية: فليقاتل في سبيل الله الذين يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة، وهو كقوله: * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) * إلى قوله: * (فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به) *.
والقول الثاني: معنى قوله: * (يشرون) * أي يشترون قالوا: والمخاطبون بهذا الخطاب هم المنافقون الذين تخلفوا عن أحد، وتقرير الكلام: فليقاتل الذين يختارون الحياة الدنيا على الآخرة، وعلى هذا التقدير فلا بد من حذف تقديره: آمنوا ثم قاتلوا لاستحالة حصول الأمر بشرائع الاسلام قبل حصول الاسلام. وعندي في الآية احتمالات أخرى: أحدها: أن الانسان لما أراد أن يبذل هذه الحياة الدنيا في سبيل الله بخلت نفسه بها، فاشتراها من نفسه بسعادة الآخرة ليقدر على بذلها في سبيل الله بطيبة النفس. وثانيها: أنه تعالى أمر بالقتال مقرونا ببيان فساد ما لأجله يترك الانسان