القتال، فان من ترك القتال فإنما يتركه رغبة في الحياة الدنيا، وذلك يوجب فوات سعادة الآخرة، فكأنه قيل له: اشتغل بالقتال واترك ترجيح الفاني على الباقي. وثالثها: كأنه قيل: الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة إنما رجحوا الحياة الدنيا على الآخرة إذا كانت مقرونة بالسعادة والغبطة والكرامة وإذا كان كذلك فليقاتلوا، فإنهم بالمقاتلة يفوزون بالغبطة والكرامة في الدنيا، لأنهم بالمقاتلة يستولون على الأعداء ويفوزون بالأموال، فهذه وجوه خطرت بالبال والله أعلم بمراده.
ثم قال تعالى: * (ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما) * والمعنى من يقاتل في سبيل الله فسواء صار مقتولا للكفار أو صار غالبا للكفار فسوف نؤتيه أجرا عظيما، وهو المنفعة الخالصة الدائمة المقرونة بالتعظيم، ومعلوم أنه لا واسطة بين هاتين الحالتين، فإذا كان الأجر حاصلا على كلا التقديرين لم يكن عمل أشرف من الجهاد. وهذا يدل على أن المجاهد لا بد وأن يوطن نفسه على أنه لا بد من أحد أمرين، إما أن يقتله العدو، وإما أن يغلب العدو ويقهره، فإنه إذا عزم على ذلك لم يفر عن الخصم ولم يحجم عن المحاربة، فأما إذا دخل لا على هذا العزم فما أسرع ما يقع في الفرار، فهذا معنى ما ذكره الله تعالى من التقسيم في قوله: * (فيقتل أو يغلب) *.
قوله تعالى * (وما لكم لا تقاتلون فى سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنسآء والولدان الذين يقولون ربنآ أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا) *.
اعمل أن المراد منه إنكاره تعالى لتركهم القتال، فصار ذلك توكيدا لما تقدم من الأمر بالجهاد وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (وما لكم لا تقاتلون) * يدل على أن الجهاد واجب، ومعناه أنه لا عذر لكم في ترك المقاتلة وقد بلغ حال المستضعفين من الرجال والنساء والولدان من المسلمين إلى ما بلغ في الضعف، فهذا حث شديد على القتال، وبيان العلة التي لها صار القتال واجبا، وهو ما في القتال من