الثاني هي تابعة له حكمها حكمه، وليس حكمها حكم الذي بعدها، ألا ترى أنه لو ترك الرمي في اليوم الأول رماه في ليلته ولم يكن مؤخرا له عن وقته؟ لأنه عليه السلام رخص للرعاة أن يرموا ليلا، فكان حكم الليلة حكم اليوم الذي قبلها ولم يكن حكمها حكم الذي بعدها، فلذلك قالوا: إن إقامته في اليوم الثاني بمنى إلى أن يمسي بمنزلة إقامته بها نهارا، وإذا أقام حتى يصبح من اليوم الثالث لزمه الرمي بلا خلاف. وهذا مما يستدل به على صحة قول أبي حنيفة في تجويزه رمي اليوم الثالث قبل الزوال، إذ قد صار وقتا للزوم الرمي، ويستحيل أن يكون وقتا لوجوبه ثم لا يصح فعله فيه.
وأما قوله تعالى: (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى) فإنه قد قيل فيه وجهان: أحدهما: فلا إثم عليه لتكفير سيئاته وذنوبه بالحج المبرور، وروي نحوه عن عبد الله بن مسعود، ومثله ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه). والوجه الثاني: أنه لا مأثم عليه في التعجيل، وروي نحوه عن الحسن وغيره، وقال: (ومن تأخر فلا إثم عليه) لأنه مباح له التأخير. وقوله: (لمن اتقى) يحتمل لمن اتقى ما نهى الله عنه في الإحرام بقوله: (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) وإن لم يتق فغير موعود بالثواب.
قوله تعالى: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا) الآية. قال أبو بكر:
فيه تحذير من الاغترار بظاهر القول وما يبديه من حلاوة المنطق والاجتهاد في تأكيد ما يظهره فأخبر الله تعالى أن من الناس من يظهر بلسانه ما يعجبك ظاهره (ويشهد الله على ما في قلبه) وهذه صفة المنافقين، مثل قوله تعالى: (قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) [المنافقون: 1] (اتخذوا أيمانهم جنة) [المجادلة: 6] وقوله: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم) [المنافقون: 4] فأعلم الله تعالى نبيه ضمائرهم لئلا يغتر بظاهر أقوالهم، وجعله عبرة لنا في أمثالهم لئلا نتكل على ظاهر أمور الناس وما يبدونه من أنفسهم. وفيه الأمر بالاحتياط فيما يتعلق بأمثالهم من أمور الدين والدنيا، فلا نقتصر فيما أمرنا بائتمان الناس عليه من أمر الدين والدنيا على ظاهر حال الانسان دون البحث عنه. وفيه دليل على أن عليه استبراء حال من يراد للقضاء والشهادة والفتية والإمامة، وما جرى مجرى ذلك في أن لا يقبل منهم ظاهرهم حتى يسأل ويبحث عنهم، إذ قد حذرنا الله تعالى أمثالهم في توليتهم على أمور المسلمين، ألا ترى أنه عقبه بقوله: (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل)؟ فكان ذكر التولي في هذا الموضع إعلاما لنا أنه غير جائز الاقتصار على ظاهر ما يظهره دون الاستبراء لحاله من غير جهته.