الوقوف بعرفة في شرط إدراك الحج، وأن رواية من روى (من أدرك جمعا قبل الصبح) وهم، وكيف لا يكون وهما وقد نقلت الأمة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقوفه بها بعد طلوع الفجر ولم يرو عنه أنه أمر أحدا بالوقوف بها ليلا؟ ومع ذلك فقد عارضته الأخبار الصحيحة التي رويت من قوله: (من صلى معنا هذه الصلاة ثم وقف معنا هذا الموقف) وسائر أخبار عبد الرحمن بن يعمر أنه قال: (من أدرك عرفة فقد أدرك الحج وقد تم حجه، ومن فاته عرفة فقد فاته الحج (وذلك ينفي رواية من شرط معه الوقوف بالمزدلفة، وأظن الأصم وابن علية القائلين بهذه المقالة.
واحتجوا فيه من طريق النظر، بأنه لما كان في الحج وقوفان واتفقنا على فرضية أحدهما وهو الوقوف بعرفة، وجب أن يكون الآخر فرضا، لأن الله عز وجل ذكرهما في القرآن، كما أنه لما ذكر الركوع والسجود كانا فرضين في الصلاة. فيقال له: أما قولك (إنهما لما كانا مذكورين في القرآن كانا فرضين) فإنه غلط فاحش، لأنه يقتضي أن يكون كل مذكور في القرآن فرضا، وهذا خلف من القول. وعلى أن الله تعالى لم يذكر الوقوف وإنما قال: (فاذكروا الله عند المشعر الحرام) والذكر ليس بمفروض عند الجميع، فكيف يكون الوقوف فرضا، فالاحتجاج به من هذا الوجه ساقط. فإن كان أوجبه قياسا على الوقوف بعرفة، فإنه يطالب بالدلالة على صحة العلة الموجبة لهذا القياس، وذلك معدوم، ويقال له: أليس قد طاف النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة وسعى، ثم طاف أيضا يوم النحر وطاف للصدر وأمر به، فهل وجب أن يكون لهذا الطواف كله حكم واحد في باب الإيجاب؟ فإذا جاز أن يكون بعض الطواف ندبا وبعضه واجبا، فما ينكر أن يكون حكم الوقوف كذلك فيكون بعضه ندبا. وبعضه واجبا؟ قوله تعالى: (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم) قضاء المناسك هو فعلها على تمام، ومثله قوله: (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا) [النساء: 103] وقوله: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض) [الجمعة: 10]، ومنه قوله عليه السلام: (فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا) روى يعني افعلوا على التمام.
وقوله: (فاذكروا الله كذكركم آباءكم) قد قيل فيه وجهان: أحدهما الأذكار المفعولة في سائر أحوال المناسك، كقوله (إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة) [الطلاق: 1] وهو مأمور به قبل الطلاق، على مجرى قولهم: (إذا حججت فطف بالبيت، وإذا أحرمت فاغتسل، وإذا صليت فتوضأ) وقوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) [المائدة: 6] وإنما هو قبل الصلاة، وكذلك قوله:
(فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله) جائز أن يريد الأذكار المسنونة بعرفات والمزدلفة