قال أبو بكر: ويدل على ما ذكرنا من انتفاء اسم الخمر عن سائر الأشربة إلا ما وصفنا، ما روي عن ابن عمر أنه قال: (لقد حرمت الخمر يوم حرمت وما بالمدينة يومئذ منها شئ) وابن عمر رجل من أهل اللغة، ومعلوم أنه قد كان بالمدينة السكر وسائر الأنبذة المتخذة من التمر، لأن تلك كانت أشربتهم، ولذلك قال جابر بن عبد الله: (نزل تحريم الخمر وما يشرب الناس يومئذ إلا البسر والتمر) وقال أنس بن مالك: (كنت ساقي عمومتي من الأنصار حين نزل تحريم الخمر، فكان شرابهم يومئذ الفضيح، فلما سمعوا أراقوها). فلما نفى ابن عمر اسم الخمر عن سائر الأشربة التي كانت بالمدينة، دل ذلك على أن الخمر عنده كانت شراب العنب النئ المشتد، وأن ما سواها غير مسمى بهذا الاسم. ويدل عليه أن العرب كانت تسمى الخمر سبيئة ولم تكن تسمى بذلك سائر الأشربة المتخذة من تمر النخل، لأنها كانت تجلب إليها من غير بلادها، ولذلك قال الأعشى:
وسبيئة مما يعتق بابل * كدم الذبيح سلبتها جريالها وتقول: سبأت الخمر، إذا شريتها، فنقلوا الاسم إلى المشتري بعد أن كان الأصل إنما هو يجلبها من موضع إلى موضع على عادتها في الاتساع في الكلام. ويدل عليه أيضا قول أبي الأسود الدؤلي - وهو رجل من أهل اللغة حجة فيما قال منها - فقال:
دع الخمر تشربها الغواة فإنني * رأيت أخاها مغنيا لمكانها فإن لا تكنه أو يكنها فإنه * أخوها غذته أمه بلبانها فجعل غيرها من الأشربة أخالها بقوله: (رأيت أخاها مغنيا لمكانها) ومعلوم أنه لو كان يسمى خمرا لما سماه أخا لها، ثم أكده بقوله: (فإن لا تكنه أو يكنها فإنه أخوها) فأخبر أنها ليست هو.
فثبت بما ذكرنا من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة وأهل اللغة أن اسم الخمر مخصوص بما وصفنا ومقصور عليه دون غيره.
ويدل على ذلك أنا وجدنا بلوى أهل المدينة بشرب الأشربة المتخذة من التمر والبسر كانت أعم منها بالخمر، وإنما كانت بلواهم بالخمر خاصة قليلة لقلتها عندهم، فلما عرف الكل من الصحابة تحريم الني المشتد واختلفوا فيما سواها، وروي عن عظماء الصحابة مثل عمر وعبد الله وأبي ذر وغيرهم شرب النبيذ الشديد، وكذلك سائر التابعين ومن بعدهم من أخلافهم من الفقهاء من أهل العراق لا يعرفون تحريم هذه الأشربة ولا يسمونها باسم الخمر، بل ينفونه عنها، دل ذلك على معنيين: أحدهما أن اسم الخمر لا