للمقتول، وكذلك الرمي والتحريق لم يجز أن يكون ذلك مرادا بذكر القصاص، فوجب أن يكون المراد إتلاف نفسه بإحدى الوجوه. ويدل على هذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في نفي القصاص في المنقلة والجائفة لتعذر استيفائه على مقادير أجزاء الجناية، فكذلك القصاص بالرمي والرضخ غير ممكن استيفاؤه في معنى الإيلام وإتلاف الأجزاء التي أتلفها.
فإن قيل: لما كان المثل ينتظم معنيين، وكذلك القصاص، أحدهما: إتلاف نفسه كما أتلف، فيكون القصاص والمثل في هذا الوجه إتلاف نفس بنفس، والآخر أن يفعل به مثل ما فعل، استعملنا حكم اللفظ في الأمرين، لأن عمومه يقتضيهما، فقلنا: نفعل به مثل ما فعل فإن مات وإلا استوفى المثل من جهة إتلاف النفس. قيل له: لا يجوز أن يكون المراد بالمثل والقصاص جميع الأمرين بأن يفعل به مثل ما فعل بالمقتول ثم يقتل، وإن كان يجوز أن يكون المراد كل واحد من المعنيين على الانفراد غير مجموع إلى الآخر، لأن الاسم يتناوله وهو غير مناف لحكم الآية. وأما إذا جمعهما فغير جائز أن يكون مرادا على وجه الجمع، لأنه يخرج عن حد القصاص والمثل بل يكون زائدا عليه، وغير جائز تأويل الآية على معنى يضادها وينفي حكمها، فلذلك امتنع إرادة القتل بالسيف بعد الرضخ والتغريق والحبس والإجاعة. وقد روى سفيان الثوري عن جابر عن أبي عازب عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا قود إلا بالسيف) وهذا الخبر قد حوى معنيين، أحدهما: بيان مراد الآية في ذكر القصاص والمثل، والآخر: أنه ابتداء عموم يحتج به في نفي القود بغيره. ويدل عليه أيضا ما روى يحيى بن أبي أنيسة عن الزبير عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يستقاد من الجراح حتى تبرأ) وهذا ينفي قول المخالف لنا، وذلك لأنه لو كان الواجب أن يفعل بالجاني كما فعل لم يكن لاستثنائه وجه، فلما ثبت الاستثناء دل على أن حكم الجراحة معتبر بما يؤول إليه حالها.
فإن قيل: يحيى بن أبي أنيسة لا يحتج بحديثه. قيل له: هذا قول جهال لا يلتفت إلى جرحهم ولا تعديلهم، وليس ذلك طريقة الفقهاء في قبول الأخبار، وعلى أن علي ابن المديني قد ذكر عن يحبى بن سعيد أنه قال: يحيى بن أبي أنيسة أحب إلي في حديث الزهري من حديث محمد بن إسحاق.
ويدل عليه أيضا ما روى خالد الحذاء عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شئ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح) فأوجب عموم لفظه أن من له قتل غيره أن يقتله بأحسن وجوه القتل وأوحاها وأيسرها، وذلك ينفي تعذيبه والمثلة به.