يمت بمثل ذلك الفعل قتله بالسيف أو زاد على جنس فعله، وذلك هو الاعتداء الذي زجر الله عنه بقوله: (فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم) لأن الاعتداء مجاوزة القصاص، والقصاص أن يفعل به مثل فعله سواء إن أمكن، وإن تعذر فإن يقتله بإحدى وجوه القتل فيكون مقتصا من جهة إتلاف نفسه غير متعد ما جعل له. وقول مالك بتكرار مثل ذلك الفعل عليه حتى يموت زائد على فعل القاتل خارج عن معنى القصاص. وقول الشافعي أنه يفعل به مثل ما فعل ثم يقتله مخالف لحكم الآية، لأن القصاص إن كان من جهة أن يفعل به مثل ما فعل فقد استوفى فقتله بعد ذلك تعد ومجاوزة لحد القصاص، وقال تعالى: (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) [الطلاق: 1] وإن كان معنى القصاص هو إتلاف نفس بنفس من غير مجاوزة لمقدار الفعل فهو الذي نقوله، فلا ينفك موجب القصاص على الوجه الذي ذهب إليه مخالفونا من مخالفة الآية لمجاوزة حد القصاص، لأن فاعل ذلك داخل في حد الاعتداء الذي أوعد الله عليه. وكذلك قوله:
(فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) [البقرة: 194] وقوله: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) [النحل: 126] يمنع أن يجرح أكثر من جراحته أو يفعل به أكثر مما فعل. ويدل على أن الراد به مثل ما فعل لا زائدا عليه اتفاق الجميع على أن من قطع يد رجل من نصف الساعد أنه لا يقتص منه لعدم التيقن بالاقتصار على مقدار حقه، وإن كان قد يغلب في الظن إذا اجتهد أنه قد وضع السكين في موضعه من المجني عليه ولم يكن للاجتهاد في ذلك حظ، فكيف يجوز القصاص على وجه نعلم يقينا أنه مستوف لأكثر من حقه وجان عليه بأكثر من جنايته؟ وأيضا لا خلاف أنه يجوز للولي أن يقتله ولا يحرقه ولا يغرقه، وهذا يدل على أن ذلك مراد بالآية. وإذا كان القتل بالسيف مرادا ثبت أن القصاص هو إتلاف نفسه بأيسر وجوه القتل. وإذا ثبت أن ذلك مراد انتفت إرادة التحريق والتغريق والرضخ وما جرى مجرى ذلك، لأن وجوب الاقتصار على قتله بالسيف ينفي وقوع غيره.
فإن قيل: اسم المثل في القصاص يقع على قتله بالسيف وعلى أن يفعل به مثل فعله، وله إن لم يمت أن يقتله بالسيف، وله أن يقتصر بديا على قتله بالسيف، فيكون تاركا لبعض حقه وله ذلك. قيل له: غير جائز أن يكون الرضخ والتحريق مستحقا مع قتله بالسيف، لأن ذلك ينافي القصاص وفعل المثل، ومن حيث أوجب الله تعالى القصاص لا غير فغير جائز حمله على معنى ينافي مضمون اللفظ وحكمه. وعلى أن الرضخ بالحجارة والتحريق والتغريق والرمي لا يمكن استيفاء القصاص به، لأن القصاص إذا كان هو استيفاء المثل فليس للرضخ حد معلوم حتى يعلم أنه في مقادير أجزاء رضخ القاتل