والمسلم والذمي، إذ كان الله تعالى مريدا لتبقية الجميع، فالعلة الموجبة للقصاص بين الحرين المسلمين موجودة في هؤلاء، فوجب استواء الحكم في جميعهم وتخصيصه لأولي الألباب بالمخاطبة غير ناف مساواة غيرهم لهم في الحكم، إذ كان المعنى الذي حكم من أجله في ذوي الألباب موجودا في غيرهم، وإنما وجه تخصيصه لهم أن ذوي الألباب هم الذين ينتفعون بما يخاطبون به وينتهون إلى ما يؤمرون به ويزدجرون عما يزجرون عنه. وهكذا كقوله تعالى: (إنما أنت منذر من يخشاها) [النازعات: 45] وهو منذر لجميع المكلفين، ألا ترى إلى قوله تعالى: (إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد) [سبأ: 46] ونحو قوله: (هدى للمتقين) [البقرة: 2] وهو هدى للجميع، وخص المتقين لانتفاعهم به، ألا ترى إلى قوله في آية أخرى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس) [البقرة: 185]؟ فعم الجميع به. وكقوله: (قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) [مريم: 18] لأن التقى هو الذي يعيذ من استعاذ بالله.
وقد ذكر عن بعض الحكماء أنه قال: (قتل البعض إحياء الجميع). وعن غيره:
(القتل أقل للقتل) و (أكثروا القتل ليقل القتل) وهو كلام سائر على ألسنة العقلاء وأهل المعرفة، وإنما قصدوا المعنى الذي في قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة). ثم إذا مثلت بينه وبينه وجدت بينهما تفاوتا بعيدا من جهة البلاغة وصحة المعنى، وذلك يظهر عند التأمل من وجوه، أحدها: أن قوله تعالى: (في القصاص حياة) هو نظير قولهم:
(قتل البعض إحياء للجميع والقتل أقل للقتل) وهو مع قلة عدد حروفه ونقصانها عما حكي عن الحكماء قد أفاد من المعنى الذي يحتاج إليه ولا يستغني عنه الكلام ما ليس في قولهم، لأنه ذكر القتل على وجه العدل لذكره القصاص وانتظم مع ذلك الغرض الذي إليه أجرى بإيجابه القصاص وهو الحياة. وقولهم: (القتل أقل للقتل) و (قتل البعض إحياء الجميع) و (القتل أنفى للقتل) إن حمل على حقيقته لم يصح معناه، لأنه ليس كل قتل هذه صفته، بل ما كان منه على وجه الظلم والفساد، فليست هذه منزلته ولا حكمه.
فحقيقة هذا الكلام غير مستعملة ومجازه يحتاج إلى قرينة وبيان في أن أي قتل هو إحياء للجميع. فهذا كلام ناقص البيان مختل المعنى غير مكتف بنفسه في إفادة حكمه، وما ذكره الله تعالى من قوله: (ولكم في القصاص حياة) مكتف بنفسه مفيد لحكمه على حقيقته من مقتضى لفظه مع قلة حروفه، ألا ترى أن قوله تعالى: (في القصاص حياة) أقل حروفا من قولهم (قتل البعض إحياء للجميع) و (القتل أقل للقتل وأنفى للقتل)؟ ومن جهة أخرى يظهر فضل بيان قوله: (في القصاص حياة) على قولهم (القتل أقل للقتل وأنفى للقتل) أن في قولهم تكرار اللفظ وتكرار المعنى بلفظ غيره أحسن في حد البلاغة،