ويدل على ما وصفنا من أن المراد أخذ الدية برضى القاتل، أن الأوزاعي قد روى حديث أبي هريرة، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عنه، عن النبي عليه السلام، وقال فيه: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يقتل وإما أن يفادى) والمفاداة إنما تكون بين اثنين كالمقاتلة والمضاربة والمشاتمة ونحو ذلك، فدل على أن مراده في سائر الأخبار أخذ الدية برضى القاتل. وهذه الأخبار تبطل قول من يقول: (إن الواجب على القاتل هو القود وللولي نقله إلى الدية) لأن في جميعها إثبات التخيير للولي بنفس القتل بين القود وأخذ الدية، ولو كان الواجب هو القود لا غير وإنما للولي نقله إلى الدية بعد ثبوته كما ينقل الدين إلى العرض والعرض إلى الدين على وجه العوض عنه، وليس هناك خيار موجب بنفس القتل بل الواجب شئ واحد وهو القود والقائل بإيجاب القود بالقتل دون غيره إلا أن ينقله الولي إلى الدية، مخالف لهذه الآثار.
وقد روى الأنصاري عن حميد الطويل عن أنس بن مالك في قصة الربيع، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كتاب الله القصاص) وذلك ينفي كون المراد بالكتاب المال أو القصاص.
وقد روى علقمة بن وائل عن أبيه وثابت البناني عن أنس أن رجلا قتل رجلا فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ولي المقتول ثم قال: (أتعفو؟) قال: لا. قال: (أفتأخذ الدية؟) قال:
لا. قال: (أما إنك إن قتلته كنت مثله) فمضى الرجل فلحقه الناس فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أما إنك إن قتلته كنت مثله) فعفا عنه. فاحتج الموجبون للخيار بين القود والمال بهذا الحديث، وهذا لا دلالة فيه على ما ذكروا، وذلك لأنه يحتمل أن يأخذ الدية برضى القاتل كما قال عليه السلام لامرأة ثابت بن قيس حين جاءت تشكوه: (أتردين عليه حديقته؟) قالت: نعم. ومعلوم أن رضى ثابت قد كان مشروطا فيه وإن لم يكن مذكورا في الخبر، لأن النبي عليه السلام لم يكن يلزم ثابتا الطلاق ولا يملكه الحديقة إلا برضاه.
وجائز أن النبي عليه السلام قصد إلى أن يعقد عقدا على مال فيكون موقوفا على رضى القاتل أو فسخه، وجائز أن يكون أراد أن يؤدي الدية من عنده كما فعل في قتيل الخزاعي بمكة وكما تحمل عن اليهود دية عبد الله بن سهل الذي وجد قتيلا بخيبر. وقوله عليه السلام: (إن قتلته كنت مثله) يحتمل معنيين، أحدهما: إنك قاتل كما أنه قاتل، لا إنك مثله في المأثم، لأنه استوفى حقا له فلا يستحق اللوم عليه، والأول فعل ما لم يكن له فكان آثما، فعلمنا أنه لم يرد (كنت مثله في المأثم). والآخر: إنك إذا قتلته فقد استوفيت حقك منه ولا فضل لك عليه، وقد ندب الله تعالى إلى الإفضال بالعفو بقوله تعالى:
(فمن تصدق به فهو كفارة له) [المائدة: 45].
فإن قال قائل: لما كان عليه إحياء نفسه وجب أن يحكم عليه بذلك إذا اختار الولي