المصحف الذي جمعهم عليه. وعزم على كل من كان عنده مصحف مخالف المصحف الذي جمعهم عليه أن يحرقه. فاستوثقت له الأمة على ذلك بالطاعة، ورأت أن فيما فعل من ذلك الرشد والهداية، فتركت القراءة بالأحرف الستة التي عزم عليها إمامها العادل في تركها طاعة منها له ونظرا منها لأنفسها ولمن بعدها من سائر أهل ملتها. حتى درست من الأمة معرفتها، وتعفت آثارها، فلا سبيل لاحد اليوم إلى القراءة بها لدثورها وعفو آثارها وتتابع المسلمين على رفض القراءة بها ما غير جحود منها صحتها وصحة شئ منها، ولكن نظرا منها لأنفسها ولسائر أهل دينها. فلا قراءة اليوم للمسلمين إلا بالحرف الواحد الذي اختاره لهم إمامهم الشفيق الناصح، دون ما عداه من الأحرف الستة الباقية.
فإن قال بعض من ضعفت معرفته: وكيف جاز لهم ترك قراءة أقرأهموها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأمرهم بقراءتها؟ قيل: إن أمره إياهم بذلك، لم يكن أمر إيجاب وفرض، وإنما كان أمر إباحة ورخصة، لان القراءة بها لو كانت فرضا عليهم لوجب أن يكون العلم بكل حرف من تلك الأحرف السبعة عند من يقوم بنقله الحجة ويقطع خبره (1) العذر ويزيل الشك من قراءة الأمة. وفي تركهم نقل ذلك كذلك أوضح الدليل على أنهم كانوا في القراءة بها مخبرين، بعد أن يكون في نقلة القرآن من الأمة من تجب بنقله الحجة ببعض تلك الأحرف السبعة. فإذا كان ذلك كذلك، لم يكن القوم بتركهم نقل جميع القراءات السبع تاركين ما كان عليهم نقله، بل كان الواجب عليهم من الفعل ما فعلوا، إذ كان الذي فعلوا من ذلك كان النظر للاسلام وأهله، فكان القيام بفعل الواجب عليهم بهم أولى من فعل ما لو فعلوه كانوا إلى الجناية على الاسلام وأهله أقرب منهم إلى السلامة من ذلك.
فأما ما كان من اختلاف القراءة في رفع حرف وجره ونصبه، وتسكين حرف وتحريكه، ونقل حرف إلى آخر مع اتفاق الصورة، فمن معنى قول النبي (صلى الله عليه وسلم): " أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف " بمعزل (2)، لأنه معلوم أنه لا حرف من حروف القرآن مما اختلف القراءة في قراءته بهذا المعنى يوجب المراء به كفر المماري به في قول أحد من علماء الأمة.
وقد أوجب عليه الصلاة والسلام بالمراء فيه الكفر، من الوجه الذي تنازع فيه المتنازعون إليه وتظاهرت عنه بذلك الرواية، على ما قد قدمنا ذكرها في أول هذا الباب.