فإن من لم يطلع على سبب نزول الآية وعلى ما كان مرسوما في الجاهلية من إحلال بعض الأشهر الحرم لم يفهم من الآية شيئا، ويراها من المتشابهات.
الخامس: أن من يصنف كتابا يحتوي على علوم كثيرة ومع ذلك يكون سهل التناول سهل الحفظ تسهل المحافظة عليه فلابد له من توخي الاختصار فيه، بأن لا يذكر إلا ما كان أصلا جامعا من دون تعرض للقرائن حالية كانت أو زمانية أو غيرها، فيكون كتابه جامعا لأصول المطالب، وإن لم يمكن فهم جزئياتها من ألفاظه، إذ لو أراد أن يذكر فيه كل ما له مدخلية في توضيح الجزئيات لكان الكتاب من الضخامة بحيث يتعذر حفظه والمحافظة عليه.
فلعل بعض المتشابهات القرآنية قد روعي فيها هذه الناحية، وذلك مثل قوله تعالى * (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب) * (1) فإن هذه الآية بظاهرها من المتشابه، ولها ظاهر غير مراد، ولكن إذا علم سبب نزولها تصير محكمة واضحة الدلالة، من دون أي إجمال أو تشابه فيها.
وذلك لأن سبب نزول هذه الآية هو - على ما قيل - أن المسلمين كانوا يعتقدون أن تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة سوف يعرضهم للإشكالات الكثيرة من اليهود والنصارى، ويجعلهم في موقف حرج، فنزلت الآية لتدل على أنه: ليس البر أن تولوا وجوهكم (بصلاتكم) قبل المشرق (أيها النصارى) والمغرب (أيها اليهود). أي أنها تريد أن تقول لهم: إن التوجه إلى المشرق والمغرب في الصلاة ليس بنفسه برا " ولكن البر من آمن بالله " (2). فلو أريد إحكام الآية فلابد من زيادة تلك الكلمات في الآية، وتصير بذلك ضعف ما هي عليه الآن.