هذه وجوه استحسانية لا توجب حرمة الكتاب ولا تثبت جواز إحراقها، مع أنها غير صحيحة في نفسها، لأن تدوين الحديث في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) بأمره وإشرافه واهتمامه كان أمرا مسلما مفروغا عنه، والدليل على ذلك ما تقدم من الأدلة، وأنه لولا التدوين في عصر الصحابة لما كان كتاب حتى يحرقه الخليفتان وأن الكتاب عندئذ كانوا كثيرين بتدبير النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) وتحريضه وترغيبه كما تقدم، والاشتغال بكتابة الحديث لم يكن تضييعا لفراغهم ومانعا عن كتابة القرآن، كيف وكان له (صلى الله عليه وآله) كتاب الدواوين المختلفة أيضا، ولم يكن اشتغالهم مانعا عن كتابة القرآن، وأما خوف أن اتكال الكاتب بكتابه يمنعه عن الحفظ وكذا سيلان الأذهان... فمما لا ينبغي ذكره ولا الرد عليه.
قال محمد عجاج الخطيب: " ونحن في بحثنا هذا لا يمكننا أن نستسلم لتلك الأسباب التقليدية التي اعتاد الكاتبون أن يعللوا بها عدم التدوين، ولا نستطيع أن نوافقهم فيما قالوه: من أن قلة التدوين في عهده (صلى الله عليه وآله) تعود قبل كل شئ إلى ندرة وسائل الكتابة، وقلة الكتاب، وسوء كتابتهم - لا يمكننا أن نسلم بهذا بعد أن رأينا نيفا وثلاثين كاتبا يتولون كتابة الوحي للرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) وغيرهم يتولون أموره الكتابية الأخرى، ولا يمكننا أن نعتد بقلة الكتاب وعدم إتقانهم لها، وفيهم المحسنون المتقنون أمثال زيد بن ثابت، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ولو قبلنا جدلا ما ادعوه من ندرة وسائل الكتابة وصعوبة تأمينها لكفى في الرد عليهم أن المسلمين دونوا القرآن الكريم ولم يجدوا في ذلك صعوبة، فلو أرادوا أن يدونوا الحديث ما شق عليهم تحقيق تلك الوسائل كما لم يشق هذا على من كتب الحديث بأذن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولابد من أسباب أخرى، وإنا لنرى تلك الأسباب من خلال الآثار الثابتة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعن الصحابة والتابعين وسنرى أن تدوين الحديث مر بمراحل منتظمة حققت حفظه وصيانته من العب وقد تضامنت الذاكرة