بينهما أن الجرح يعرف في لحظة وهو أن يرتكب ما يفسق به فتسقط شهادته، ولو كان قبل ذلك أعدل الناس، فلهذا لم يفتقر إلى الخبرة المتقادمة، وليس كذلك التزكية لأنه لا يكون عدلا بأن يراه في يومه عدلا، لأن العدل من تاب عن المعاصي فطالت مدته في الطاعات، فإذا لم يكن خبيرا به، فربما لم يسغ أن يشهد بعدالته و هذا إلى صاحب المسألة أن لا يشهد بالتزكية حتى يثبت عنده ذلك لمن هو من أهل الخبرة الباطنة والمعرفة المتقادمة.
قد ذكرنا أن أصحاب مسائله يسألون عن صفة الشاهد سرا، فإذا سأل عنه سرا فزكاه فإذا حضرا للحكم بشهادتهما لم يسألهما عن عدالتهما، لأنه قد سألهما عنها وشهدا عنده بذلك، لكنه يسألهما فيقول: هذان هما اللذان زكيتماهما وسألتكما عنهما؟ فإذا قالا: نعم، حكم بشهادتهما، وإنما قلنا: يسأل جهرا بعد السر، احتياطا لئلا يقع اسم على اسم فيكون المزكي غير المسؤول عنه.
لا يجوز للحاكم أن يرتب شهودا يسمع شهادتهم دون غيرهم، بل يدع الناس فكل من شهد عنده فإن عرفه وإلا سأل عنه، على ما بيناه، وقيل: أول من رتب شهودا لا يقبل غيرهم إسماعيل بن إسحاق القاضي المالكي.
والصحيح ما قلناه، لأن الحاكم إذا رتب قوما فإنما يفعل هذا بمن هو عدل عنده، وغير من رتبه كذلك مثله أو أعدل منه، فإذا كان الكل سواء لم يجز أن يخص بعضهم بالقبول دون بعض، ولأنه فيه مشقة على الناس لحاجتهم إلى الشهادة بالحقوق في كل وقت من نكاح وغصب وقتل وغير ذلك.
فإذا لم يقبل إلا قوما دون قوم شق على الناس - ولأن فيه ضررا على الناس - فإن الشاهد إذا علم أنه لا يقبل قول غيره ربما تقاعد فيها حتى يأخذ الرشوة عليها ولأن فيه إبطال الحقوق، فإن كل من له حق لا يقدر على إقامة البينة به من كان مقبول الشهادة راتبا لها دون غيره، فإذا كان كذلك لم يجز ترتيبهم، وإنما نمنع أن يقبل قوما دون غيرهم، فأما إن رتب قوما قد عرف عدالتهم وسكن إليهم يسمع قولهم ويقبل