الأخبار السابقة أيضا ليست بصدد بيان قاطعية الوطن العرفي، لعدم كونها مبحوثا عنها، بل عدم قابليتها للبحث، بل هي ناظرة إلى مسألة كانت مبحوثا عنها بين العامة في أعصار الأئمة (عليهم السلام)، وهي مسألة قاطعية المرور بالملك، فتوهم بعضهم ومنهم الشافعي في أحد قوليه كونه قاطعا لحكم السفر من جهة أن القصر إنما شرع لدفع مشقة السفر؛ والمسافر ما دام يضرب في الأرض أو يقيم قليلا في منزل لاستراحة مختصرة يشق عليه الإتمام، وأما إذا وصل إلى منزل له فيه علاقة ملكية فيزول تعبه، لكونه برزخا بين السفر والحضر، بل يقرب من الحضر غالبا إذا كان له فيه رعايا كثيرة يدفعون عنه مشقة السفر، وقد صارت هذه المسألة معركة للآراء حتى اطلع عليها أصحاب الأئمة (عليهم السلام) وسألوهم عنها فأجابوا تارة بالإتمام وأخرى بالقصر وثالثة بالتفصيل بين صورة الاستيطان وغيرها، وفسر الاستيطان في رواية ابن بزيع بأن يكون له في ضيعته منزل يقيم فيه ستة أشهر، وظاهرها وإن كان التوالي لكن أفتى أصحابنا المتأخرون بكفاية الستة أشهر ولو متفرقة، ولعل التعميم من جهة أن الموضوع هو الضيعة، وإقامة أرباب الضياع في ضياعهم ستة أشهر متوالية مما لا تتفق غالبا، إذا الغالب مسافرتهم إليها في السنة مرارا، تارة لتعيين وظائف الرعايا، وأخرى لضبط المحصولات، وثالثة للتنزه مثلا، وكل سفر منهم لا يزيد على أيام، ولكنهم مع ذلك يختلفون: فقد لا يكون لهم فيها منزل مخصوص لورودهم فيه، وقد يكون لهم فيها منزل أعد لذلك، فحكم الأئمة (عليهم السلام) بالتقصير في الأول وبالإتمام في الثاني إذا كان إقامته في هذا المنزل بمقدار ستة أشهر، وقد عرفت أن الاستيطان في الروايات لا يحمل على الوطن العرفي المصطلح عليه في أزماننا، إذ هو عنوان ينتزع عن بلد الإقامة ولا يصح إطلاقه على المنزل، وليس في أخبارنا اسم من هذا الاصطلاح العجمي، بل المذكور فيها عنوان الاستيطان مضافا إلى نفس المنزل، فيجب أن يراد به نفس السكون فيه، والمضارع في الأخبار يحمل على المضي لما عرفت، والخروج من
(٢١٦)