السلطنة الأجلة الباقية، وأما العالم الموفق فلا يتدلى بحبل غروره، إذ علم مداخل مكره، فأعرض عن العاجلة واختار الأجلة.
ولما استطار مكر اللعين في كافة الخلق، أرسل الله إليهم الأنبياء، واشتغلوا بدعوتهم من الملك المجازي الذي لا أصل له ولا دوام أن سلم إلى الملك الحقيقي الذي لا زوال له أصلا، فنادوا فيهم:
" يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل " (12).
وذموا من اختار العاجلة الفانية على الآخرة الباقية، كما قال سبحانه:
" إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا " (13). وقال:
" كلا بل تحبون العاجلة. وتذرون الآخرة " (14).
فالغرض من بعثة الرسل ليس إلا دعوة الخلق إلى الملك المخلد، ليكونوا ملوكا في الآخرة بسبب القرب من الله تعالى، ودرك بقاء لا فناء فيه، وعز لا ذل معه، وقرة عين أخفيت لا يعلمها أحد. والشيطان يدعوهم من طريق العجلة إلى ملك الدنيا الفاني، لعلمه بأن ما سمى ملك الدنيا، مع أنه لا يسلم ولا يخلو عن المنازعات والمكدرات وطول الهموم في التدبيرات، يفوت به ملك الآخرة، إذ الدنيا والآخرة ضرتان. بل يفوت به الملك الحاضرة الذي هو الزهد في الدنيا، إذ معناه أن يملك العبد شهوته وغضبه، فينقادان لباعث الذين وإشارة الإيمان. وهذا ملك بالاستحقاق، إذ به يصير صاحبه حرا، وباستيلاء الشهوة يصير عبدا لبطنه وفرجه وسائر أعضائه، فيكون مسخرا مثل البهيمة، مملوكا يسخره زمام الشهوة، أخذ المخنقة إلى حيث يريد ويهوى. فما أعظم اغترار الإنسان، إذ ظن أنه ينال الملك بأن يصير مملوكا، وينال الربوبية بأن يصير عبدا. ومثل هذا هل يكون إلا معكوسا في الدنيا منكوسا في الآخرة؟. فقد ظهر أن منشأ الخسران في الدنيا