الخوف من الموت لأجل البواعث المذكورة لا وجه له.
ثم ينبغي للعاقل أن يتفكر في أن كل كائن فاسد البتة، كما تقرر في الحكمة. وهو من الكائنات. والفساد ضروري له فمن أراد وجود بدنه أراد فساده اللازم له، فتمنى دوام الحياة من الخيالات الممتنعة، والعاقل لا يحوم حولها ولا يتمنى مثلها. بل يعلم يقينا أن ما يوجد في النظام الكلي هو الأصلح الأكمل وتغييره ينافي الحكمة والخيرية، فيرضى بما هو واقع على نفسه وغيره من غير ألم وكدورة. ثم من يتمنى طول عمره فمقصوده منه إن كان حب اللذات الجسمية وامتداد زمانها، فليعلم أن الثيب إذا أدركه ضعفت الأعضاء واختلت القوى وزالت عنه الصحة التي هي عمدة لذاته فضلا عن غيرها، فلا يلتذ بالأكل والجماع وسائر اللذات الحسية، ولا يخلو لحظة عن مرض وألم، وتتراجع جميع أحواله، فتتبدل قوته بالضعف وعزه بالذل، وكذا سائر أحواله، كما أشير إليه في الكتاب الإلهي بقوله تعالى:
" ومن نعمره ننكسه في الخلق " (90).
ومع ذلك لا يخلو كل يوم من مفارقة حبيب أو شفيق، ومهاجرة قريب أو رفيق. وربما ابتلى بأنواع المصيبات، ويهجم عليه الفقر والفاقة والنكبات، وطالب العمر في الحقيقة طالب هذه الزحمات. وإن كان مقصوده منه اكتساب الفضائل العلمية والعملية، فلا ريب في أن تحصيل الكمالات بعد أوان الشيخوخة في غاية الصعوبة، فمن لم يحصل الفضائل الخلقية إلى أن أدركه الشيب، واستحكمت فيه الملكات المهلكة من الجهل وغيره، فإني يمكنه بعد ذلك إزالتها وتبديلها بمقابلاتها، إذ رفع ما رسخ في النفس مع الشيخوخة التي لا يقتدر معها على الرياضات والمجاهدات غير ممكن.
ولذا ورد في الآثار: " أن الرجل إذا بلغ أربعين سنة ولم يرجع إلى الخير، جاء الشيطان ومسح على وجهه وقال: بأبي وجه من لا يفلح أبدا ". على أن الطالب للسعادة ينبغي أن يكون مقصور الهم في كل حال على تحصيلها، ومن جملتها دفع طول الأمل والرضا بما قدر له من طول العمر وقصره،