تناهيها في الشدة والقوة، وكونها في الكمال والبهاء غاية ما يمكن ويتصور ويحتمله ظرف الواقع ونفس الأمر، كما هو الشأن في ذاته سبحانه. وإدراك هذه الغاية أيضا يختلف باختلاف علو المدارك، فمن كان في الدرك أقوى وأقدم كان بربه أعرف، ومن كان به أعرف كان منه أخوف، ولذا قال تعالى:
" إنما يخشى الله من عباده العلماء " (92).
وقال سيد الرسل: " أنا أخوفكم من الله ". وقد قرع سمعك حكايات خوف زمرة المرسلين ومن بعدهم من فرق الأولياء والعارفين، وعروض الغشيات المتواترة في كل ليلة لمولانا أمير المؤمنين عليه السلام.
وهذا مقتضى كمال المعرفة الموجب لشدة الخوف، إذ كمال المعرفة يوجب احتراق القلب. فيفيض أثر الحرقة من القلب إلى البدن بالنحول والصفار والغشية والبكاء، وإلى الجوارح بكفها عن المعاصي وتقييدها بالطاعات تلافيا لما فرط في جنب الله ومن لم يجتهد في ترك المعاصي وكسب الطاعات فليس على شئ من الخوف، ولذا قيل: ليس الخائف من يبكي ويمسح عينيه، بل من يترك ما يخاف أن يعاقب عليه. وقال بعض الحكماء " من خاف شيئا هرب منه، ومن خاف الله هرب إليه "، وقال بعض العرفاء: " لا يكون العبد خائفا حتى ينزل نفسه منزلة السقيم الذي يحتمي مخافة طول السقام ". وإلى الصفات بقمع الشهوات وتكدر اللذات، فتصير المعاصي المحبوبة عنده مكروهة، كما يصير العمل مكروها عند من يشتهيه إذا عرف كونه مسموما، فتحترق الشهوات بالخوف، وتتأدب الجوارح، ويحصل في القلب الذبول والذلة والخشوع والاستكانة، وتفارقه ذمائم الصفات، ويصير مستوعب الهم يخوفه والنظر في خطر عاقبته، فلا يتفرغ لغيره، ولا يكون له شغل إلا المجاهدة والمحاسبة والمراقبة والضنة بالأنفاس واللحظات، ومؤاخذة النفس في الخطرات والكلمات، ويشتغل ظاهره وباطنه بما هو خائف منه لا متسع فيه لغيره، وكما أن من وقع في مخالب ضاري السبع يكون مشغول الهم به ولا شغل له بغيره. وهذا حال من غلبه الخوف واستولى عليه، كما جرى عليه جماعة من الصحابة والتابعين