من المآخذ الخفية البعيدة على ما تجاوز عن مقتضى استقامة القريحة، ولذا جعلوها ضدا للذكاء وسرعة الفهم، والعرف خصصها باستنباط هذه الأمور إذا كانت موجبة لإصابة مكروه إلى الغير من حيث لا يعلم، وربما فسر بذلك في اللغة أيضا، وهذا المعنى هو المراد هنا.
ولتركبه من إصابة المكروه إلى الغير ومن التلبيس عليه، يكون ضده استنباط الأمور المؤدية إلى الخيرية، والنصيحة لكل مسلم، واستواء العلانية للسريرية.
ثم فرق المكر ومرادفاته عن التلبيس والغش والغدر وأمثالها، إما باعتبار خفاء المقدمات وبعدها فيها دونها. أو بتخصيص الأولى بنفس استنباط الأمور المذكورة والثانية بارتكابها، ولذا عدت الأولى من رذائل القوة الوهمية أو العاقلة للعذر المذكور، والثانية من رذائل الشهوية، وربما كان استعمالهما على الترادف، وأطلق كل منهما على ما تطلق عليه الأخرى.
هذا وللمكر مراتب شتى ودرجات لا تحصى من حيث الظهور والخفاء، فربما لم يكن فيه كثير دقة وخفاء فيشعر به من له أدنى شعور، وربما كان في غاية الغموض والخفاء بحيث لم يتفطن به الأذكياء. ومن حيث الموارد والمواضع كالباعث لظهور المحبة والصداقة واطمئنان عاقل، ثم التهجم عليه بالإيذاء والمكروه، والباعث لظهور الأمانة والديانة وتسليم الناس أموالهم ونفائسهم إليه على سبيل الوديعة أو المتشاركة أو المعاملة، ثم أخذها وسرقها على نحو آخر من وجوه المكر. وكالباعث لظهور ورعه وعدالته واتخاذ الناس إياه إماما أو أميرا فيفسد عليهم باطنا دينهم ودنياهم. وقس على ذلك غيره من الموارد والمواضع.
ثم المكر من المهلكات العظيمة، لأنه أظهر صفات الشيطان، والمتصف به أعظم جنوده، ومعصيته أشد من معصية إصابة المكروه إلى الغير في العلانية، إذ المطلع بإرادة الغير إيذاءه يحتاط ويحافظ نفسه عنه، فربما دفع أذيته، وأما الغافل فليس في مقام الاحتياط، لظنه أن هذا المكار المحيل محب وناصح له، فيصل إليه ضره وكيده في لباس الصدقة والمحبة.
فمن أحضر طعاما مسموما عند الغير مريدا إهلاكه فهو أخبث نفسا وأشد