الأنوار القاهر على كل نور بالإحاطة والغلبة، وما من نور إلا وهو منبجس من نوره ومترشح عن ظهوره، فكل نور في مرتبة نوره زائل، وكل ظهور في جنب ظهوره وشروقه مضمحل باطل.
ولما كان التفكر في ذاته تعالى مذموما، فانحصر التفكر الممدوح في التفكر في عجائب صنعه وبدائع خلقه - وقد تقدم - وفي ما يرقب العبد إلى الله من الفضائل الخلقية والطاعات العضوية، وما يبعده عنه من الملكات الباطنة والمعاصي الظاهرة. وهذه الملكات والأفعال هي المعبرة عنها بالمنجيات والمهلكات والطاعات والسيئات التي تذكر في هذا الكتاب وفي غيره من كتب الأخلاق، والمراد بالتفكر فيها ههنا أن يتفكر العبد في كل يوم وليلة في وقت واحد أو أوقات متعددة في أخلاقه الباطنة وأعماله الظاهرة، ويتفحص عن حال قلبه وأعضائه ومجتنبا عن الرذائل الباطنة، ووجد أعضاءه ملازمة للطاعات والعبادات المتعلقة بها تاركة للمعاصي المنسوبة إليها، فليشكر الله على عظيم توفيقه، وإن وجد في قلبه شيئا من الرذائل أو رآه خاليا عن بعض الفضائل، فليبادر إلى العلاج بالقوانين المقررة، بعد التفكر في سوء خاتمته وأدائه إلى مقت الله وهلاكه، وكذلك إن عثر بالتفكر على صدور معصية أو ترك طاعة منه فليتداركه بالندم والتوبة وقضاء تلك الطاعة.
ولا ريب في أن هذا القسم من التفكر له مجال متسع والقدر الضروري منه يستغرق اليوم بليلته، والاستقصاء فيه خارج عن حيطة شهر وسنة، إذ اللازم منه أن يتفكر في كل يوم وليلة في كل واحد من الملكات المهلكة:
من البخل، والكبر، والعجب، والرياء، والحقد، والحسد، والجبن، وشدة الغضب والحرص والطمع وشره الطعام والوقاع، وحب المال، وحب الجاه، والنفاق، وسوء الظن، والغفلة، والغرور... وغير ذلك. وينظر بنور الفكرة والبصيرة في زوايا قلبه، ويتفقد منها هذه الصفات، فإن وجدها بظنه خالية عنها، فليتفكر في كيفية امتحان القلب والاستشهاد بالعلامات الدالة على البراءة اليقينية، فإن النفس قد تلبس الأمر على صاحبها: فإن ادعت البراءة من الكبر، فينبغي أن يمتحن بحمل قربة ماء أو حزمة حطب