السوء أو غير ذلك، فليبادر إلى قطع السبب، ثم التدارك بالتوبة والندم، لئلا يكون غده مثل يومه. وهذا القدر من التفكر في كل يوم وليلة لازم لكل دين معتقد بالنشأة الآخرة، وقد كان ذلك عادة وديدنا لسلفنا المتقين في صبيحة كل يوم أو عشية كل ليلة، بل كانت لهم جريدة يكتبون فيها رؤس المهلكات والمنجيات ويعرضون في كل يوم وليلة صفاتهم عليها، ومهما اطمأنوا بقطع رذيلة أو الاتصاف بفضيلة يخطون عليها في الجريدة، ويدعون الفكر فيها، ثم يقبلون على البواقي، وهكذا يفعلون حتى يخطوا على الجميع ومن كان أقل مرتبة منهم من الصلحاء ربما يثبتون في جريدتهم بعض المعاصي الظاهرة، من أكل الحرام، والشبهة، وإطلاق اللسان، والكذب، والغيبة والمراء، والنميمة، والمداهنة مع الخلق بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... وغير ذلك، ويفعلون بمثل ما مر.
وبالجملة: كان إخواننا السالفون وسلفنا الصالحون لا ينفكون عن هذا النوع من التفكر، ويرونه من لوازم الإيمان بالحساب، فأف علينا حيث تركنا بهم التأسي والقدوة، وخضعنا في غمرات الغفلة، ولعمري أنهم لو رأونا لحكموا بكفرنا وعدم إيماننا بيوم الحساب، كيف وأعمالنا لا تشابه أعمال من يؤمن بالجنة والنار. فإن من خاف شيئا هرب منه، ومن رجا شيئا طلبه، ونحن ندعي الخوف من النار ونعلم أن الهرب منها بترك المعاصي ومع ذلك منهمكون فيها، وندعي الشوق إلى الجنة ونعلم أن الوصول إليها بكثرة الطاعات ومع ذلك مقصرون في فعلها.
ثم هذا النوع من التفكر إنما هو تفكر العلماء والصالحين، وأما تفكر الصديقين فأجل من ذلك، لأنهم مستغرقون في لجة الحب والأنس، منقطعون بشراشرهم إلى جناب القدس، ففكرهم مقصور على جلال الله وجماله وقلبهم مستهتر به، بحيث فنى عن نفسه ونسي صفاته وأحواله، فحالهم أبدا كحال العشاق المستهترين عند لقاء المعشوق، ولا تظنن أن هذا التفكر - بل أدنى مراتب التلذذ بالتفكر في عظمة الله وجلاله - ممكن الحصول بدون الانفكاك عن جميع الرذائل المهلكة والاتصاف بجميع الفضائل المنجية، فإن حال المتفكر في جلال الله وعظمته مع اتصافه بالأخلاق الرذيلة، كحال العاشق الذي خلي