يحتاج إليها نوع الإنسان، ولو فقد واحدا منها لم يتم انتظامه، ولم يترك معمورة لم يكن في قربها هذه المعادن، وجعل ما يكون الاحتياج إليه أشد وأكثر أعم وجودا وأقرب مسافة، كالملح ومثله.
ثم انظر إلى (أنواع النبات) بكثرتها واختلافها في الأشكال والألوان والطعوم والروائح والخواص والمنافع، فهذا يغذي، وهذا يقوي، وهذا يقتل، وهذا يحيي، وهذا يسخن، وهذا يبرد، وهذا يجفف، وهذا يرطب وهذا يسهر، وهذا ينوم، وهذا يحزن، وهذا يفرح.. إلى غير ذلك من المنافع المختلفة والقوائد المتباينة، مع اشتراكها في السقي من ماء واحد، والخروج من أرض واحدة. (فإن قلت): اختلافها لاختلاف بذورها، (قلنا): متى كانت في النواة نخلة مطوقة بعناقيد الرطب؟ ومتى كانت في حبة واحدة سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة؟ وانظر إلى كل شجره ونبت إذا أنزل عليها الماء كيف يهتز ويربو وخضر وينمو بجميع أجزائه من الأصول والأغصان والأوراق والأثمار على نسبة واحدة، من غير زيادة لجزء على آخر، لوصول الماء إليها على نسبة واحدة وقسمته عليها بالسوية، فمن هذا القاسم العدل في فعل ما ليس له شعور ولا إدراك؟ فتبا لأقوام يسندون هذه الحكم المتقنة الظاهرة والمصالح المحكمة الباهرة إلى ما لا خبر له بوجوده وذاته ولا بأفعاله وصفاته!
ثم انظر إلى (أنواع الحيوانات) وأصنافها وكثرتها واختلافها: من الطيور والوحوش والسباع والبهائم، كيف هدى الله كل واحد منها إلى ترتيب المنزل وتحصيل القوت، وجعل ما لا يتم معاش الإنسان بدونه من الأنعام والبهائم مأنوسا به غير متوحش عنه، وغيره وحشيا عنه غير ألف به، وجعل في كل منها من عجائب الحكم وغرائب المصالح ما تتحير منه العقول، فمن ذا الذي يقدر أن يحيط بعجائب خلق العنكبوت والنحلة - بل البقة والنملة - وغرائب أفعالها مع كونها من صغار الحيوانات، من وضع منازلها وجمع أقواتها وادخارها لنفسها وهدايتها إلى حوائجها؟
فأي مهندس يقدر على رسم بيوت النحل والعنكبوت على هذا التناسب الهندسي؟ وانظر كيف جعل العنكبوت بيته شبكة ليصيد بها البق والذباب.
ج: 1